ما يزال أهلنا في غزة وحيدين في مواجهة ويلات آلة الإبادة الاستعمارية، والاستهداف الممنهج لكل أشكال الحياة. فما سلمتْ  الأرواح ولا المستشفيات ولا المدارس ولا البنية التحتية للقطاع المنهك من منظومة البطش الصهيونية، بينما يُشاهد العالم بأسره في بثٍ حي مباشر على الشاشات قنابل تزن آلاف الأطنان، مُوّلّت من ضرائبكُم، وهي تسقط على غزة. 

نؤكّد في الثامن من آذار -يوم المرأة العالمي- على أنّ آلة القتل الصهيونية لا تُفرّق بين رجل وامرأة، كبير وصغير. فكل الجسد الفلسطيني في غزة مُستهدف لكونه جسدًا مُقاومًا يرفضُ استمراريّة وجود المُحتل على أرضه بوصفه أمرًا واقعًا، ويلفُظ اعتداءات هذا الكيان على وجوده. 

نقف هنا اليوم لأجلِ نساء غزّة ورجالها، لأجل أطفال غزّة وشبابها،  لأجل جدّاتنا وأجدادنا حافظي تاريخنا وذاكرتنا، ولأجل مَن جعل من غزّة حاضنة شعبية للمقاومة الباسلة فيها، لأجل البيوت والبحر والشوارع والشجر، ولأجل الذكريات وكل ما جعل من غزة بيتًا لنا. 

نرى يوميًا سيّداتٍ يلدن دون تخدير، وأُمهاتٍ يُقتلن هُنّ وأجنتهن، وأطفالًا فقدوا عائلاتهم بأكملها، ورجالًا يبحثون عن أهالينا تحت الركام بأياديهم العارية، وأطباء مُجبرين على قطع أطراف فلذات أكبادهم على طاولة في منزلٍ محاصر مفتقرين لأي معدات طبية، ومئات الآلاف من أهالي شمال القطاع مُحاصَرين يواجهون سياسة التجويع الممنهج أداةً في حرب الإبادة التي يُنفذها الجيش الصهيوني هادفًا إلى كسر شعبنا المُقاوِم. أمّا مَن نجا من شيوخنا وعجائزنا عام النكبة، فقد وجدوا أنفسهم اليوم تحت واقع التهجير والإبادة ذاته. 

نرفُض نحنُ نساء غزّة أن تُستغَلَّ في هذا اليوم المُثل النسوية سلاحًا لتبرير الحروب وخدمة الأجندات الاستعمارية. نرفض رفضًا قاطعًا خطاب مَن يختزل العنف ضد المرأة الفلسطينية في العنف الممارس عليها مجتمعيًا فقط، بينما يدعم اعتداءات الكيان الصهيوني في تنكيله بأجساد نساء فلسطين ورجالها. فقد رأينا منذ بدء حرب الإبادة تهافت مُعظم المؤسسات الإعلاميّة والمجموعات التي تنصّب نفسها مرجعًا نسويًّا على تبنّي البروباغاندا الصهيونية ومزاعمها الهادفة إلى شيطنة مشروع المُقاومة وشرعنة الإبادة، في مقابل اختيارها الصمت تواطؤًا مع استباحة جنود الاحتلال للمساحات الأكثر حميمية لنساء غزّة، وتشييئهم الجنسيّ لهن.

ولا شكّ لدينا أنّ المقاطع التي يستعرضها جنود الاحتلال استعراضًا احتفاليًّا على مواقع التواصل، تعكس العقلية الاستعمارية التي يُشكل العنف الجنسي جزءًا أصيلًا من بُنيتها وممارساتها. ومع ذلك، رأينا هذه المجموعات والمؤسّسات لا تُحرّك ساكنًا أمامها ولا تنتفض لشهادات الاغتصاب والتعذيب الوحشيّ الذي تعرّضت له المُعتَقلات من قطاع غزة. ورأيناها لا تجدُ في التحرش الجنسي، والتهديد باغتصاب عائلاتهن، وإطلاق الكلاب تجاههن، وتعريتهن، وحرمانهن من الطعام والذهاب لدورات المياه، جرائمَ تستوجب تصعيدًا عاجلًا يُلائم مدى هذه الوحشية. ولذا،  فإنّنا لا نؤمن بأنّ جميع النساء في خندقٍ واحدٍ لكونهن نساءً فقط. فهؤلاء اللاتي في مراكز صُنع القنابل والقرارات لا ينتمين إلى نضالنا النسوي، بل إن نسويّتهنّ لا يمكن أن تُرى إلا بوصفها ذراعًا للطبقة الحاكمة؛ يُحرّكها ما يخدم مصالحها المُشتركة معها فحسب.

إنّنا نعلنُ رفضنا في هذا اليوم أيضًا تجريدَ الرجل الفلسطيني من إنسانيته من خلال وصم طبيعته بالعنف والوحشيّة. فهي حيلةٌ استعماريّة قديمة استُخدِمت مرارًا في سياقات مختلفة، وشهدنا توظيفها ضدّ الرجال السّود، مثلما رأينا تصديرها أطروحةً عنصريّة في خطاب “إنقاذ النساء” الاستشراقي الذي قدّم غطاءً لجرائم الاجتياح والغزو، كما في أفغانستان والعراق.

إنّنا نرفض كذلك تحويل الفاجعة إلى أرقامٍ تُسرَدُ سردًا عابرًا ينتقصُ من إنسانيتنا. وذلك عدا عن أنّها أرقامٌ تفتقرُ إلى الدقّة في ظل شهادات الناس على الأرض عن آلاف المفقودين والمختفين، ومن دُفِنوا على عجل، وأولئك ممن لا يزالون تحت الأنقاض دون توثيق. فقد أصبحتْ مساحات غزّة وأرصفتها ومدارسها ومستشفياتها جميعها مقابر جماعيّة. فإذا نحن أردنا سرد معاناة أهلنا اليوميّة في حرب الإبادة، سنحتاجُ إلى خطاباتٍ عديدة وساعاتٍ طويلة، بل إنّ سنواتٍ من جهدِ تجميع أرشيف معاناة أهلنا لن تكون كافية لذلك. فصرخات أمّ هند ليست سوى نقطةٍ في بحر صرخات أمّهات غزّة، ووداعُ جدّ ريم الأخير لـ”روح الروح” ليس إلا لمحة لوداعات دامية أخرى لم تروْها على الشاشات ولن تشهدوها. 

إنّنا، في الحقيقة، يؤلمنا اضطرار من هم تحت نار الإبادة إلى توجيه كاميراتهم تجاه أجساد أحبائهم في لحظات وداع وحزن كان من المفترض أن تكون مُقدّسة، إلا إنّهم يوثّقونها لكم ليثبتوا أن كل هذا يحدث فعلًا، حتى أضحتْ صورهم مجرد سلعٍ تتداولونها فيما بينكم. لقد انتُهكَت مساحة الوداع، وحُرم من فقد أحباءه من حق البكاء، وإكرام جثثهم بالدفن، هذا إن وُجِدت.

إنّنا نرفض إضفاء طابعٍ رومانسيٍّ على معاناة الفلسطينيين في ظل الإبادة الإسرائيلية، حيث لم يُترك لهم في غزة أيّ خيار سوى محاولة البقاء على قيد الحياة. فلقد شاهد العالم أجمع طبيبات يخاطرن بحياتهن لإنقاذ الجرحى؛ ونساء يجمعن الحطب لطهي الطعام لعائلاتهن في ظلّ مواصلة إسرائيل منع إمداد الغاز عن أهلنا؛ وأخريات نازحات يخبزن الخبز في خيام مؤقتة، وأمهاتنا في الشمال يصنعن الخبز من علف الحيوانات وسط شحّ المساعدات ومسرحية الإنزالات التي لا تعدو أن تكون مصيدة تدفع أهالينا إلى الموت المحتّم. لقد شاهدتم نساءً يصنعن الحفاضات وسط نقص حاد في الإمدادات، وفلسطينيات يتطوعن لتقديم الدروس للأطفال النازحين في أعقاب التدمير الإسرائيلي المُمنهج للمدارس والتعليم في غزة. 

كل هذا لا يستدعي منكم التبجيل بل العار، عار فشل الجميع في إنهاء هذه العذابات، وعار التواطؤ في إبادة شعبنا، ودفع نسائنا لتحمّل هذي العذابات في سبيل البقاء. 

إنّنا في كفاحنا المستمر من أجل التحرّر وحقنا في تقرير المصير، نعي تمامًا تشابك مصائرنا مع أخواتنا وإخواننا من الشعوب المقهورة في ساحات النضال الممتدة من السودان والكونغو، هاييتي وتيجراي، كشمير والصحراء الغربية، إلى سوريا واليمن وأفغانستان والعراق، وذلك ضد خطاب الأنظمة الاستعمارية الرأسمالية الإمبريالية وبطشها، ومحاولتها عبر تطبيع التوحش الصهيوني وتمويله أن تجعل من غزة عبرة لكل مُعذّبي الأرض ممّن اختاروا نهج المقاومة.

علينا أن ندرك اليوم حقيقة أنّ شبح الموت لن يتوقّف عن حصد المزيد من الأرواح خارج فلسطين وداخلها ما لم نتحرك فورًا وبكل السبل المتاحة لوقف حرب الإبادة ورفع الحصار من أجل تصفية مشروع الاستعمار في المنطقة. فكما قلنا، نذكّر: مصائرنا متشابكة.  

احشدوا قُواكم الثورية وصعدّوا من أجل:

  • الوقف الفوري وغير المشروط لحرب الإبادة على قطاع غزّة. 
  • رفع الحصار عن القطاع وفتح معبر رفح، الذي يُشكّل الممر الوحيد أمام حركة الأفراد والبضائع بشكل دائم وغير مشروط. 
  • وقف تجارة الحرب المتمثلة بدفع مبالغ طائلة لحساب شركات سماسرة الدم التابعة للنظام المصري الذي يُحاصر القطاع منذ سنوات. 
  • عودة من أجبروا قسريًا على النزوح إلى منازلهم بشكل فوري.  
  • الإفراج عن كل المعتقلات والمعتقلين ممن خُطفوا من داخل قطاع غزة بشكل فوري. 
  • قطع الإمدادات عن الكيان الصهيوني لا سيما الأسلحة والبضائع. 
  • محاسبة ومساءلة كافّة المتورطين في حرب الإبادة، من سياسيين ومنصات إعلامية ومؤسسات إغاثية ومنظمات دوليّة.
  • رفض الحلول السياسية تحت ابتزاز نيران الإبادة المنصبّة على قطاع غزة وأهلها، والتأكيد على أن أي حديثٍ في هذا الاتجاه جريمةٌ بحقّنا تتماهى مع أهداف العدوان.

المجد للمقاومة. المحتل والأنظمة القمعية إلى زوال. عاش نضالنا الأممي. تسقط السجون. تسقط الحدود. تسقط الرأسمالية. تسقط الإمبريالية. يسقط كل شيء إن لم تعش غزة. 

ليس فينا حُر ولا حُرّة إن لم نكن جميعنا أحرارًا

لا مستقبل دون غزة 

لا نضال نسوي دون غزة

تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *