بينما يتركز الاهتمام على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وما يتركه من أثر على القطاع ومن فيه، فإن الاستراتيجية الإسرائيلية تقضي بتوسيع الاستهداف نحو المسألة الفلسطينية عموماً، ومن ضمنها، وربما في جوهرها قضية اللاجئين الفلسطينيين، لجهة السعي لتصفيتها، وقد ظهر ذلك من خلال التدمير الكثيف لمخيمات قطاع غزة، والاستباحة شبه اليومية لمخيمات الضفة، وكذلك زج بنيامين نتنياهو بند تفكيك وكالة غوث وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا)، ضمن رؤيته المختصرة لمرحلة ما بعد انتهاء الحرب على القطاع، والتي كشف عنها بداية موقع «أكسيوس» (AXIOS) الأميركي، وعنون البند بـ«إغلاق الأونروا» (Closing UNRWA)
أبعد من تصفية الأونروا
لم يكن طلب نتنياهو تصفية الأونروا عصياً على فهم مراميه الحقيقية، أي تصفية قضية اللاجئين التي تُعد جذر المسألة الفلسطينية، ومن هنا يُمكن فهم اتهام 12 موظفاً في الوكالة بالمشاركة في عملية «طوفان الأقصى» من دون تقديم أي مستند، ومسارعة كبار المموّلين إلى تجميد تمويلهم، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا، وغيرهم كثيرون (أعلنت كندا ودول أخرى أخيراً تراجعها واستئناف التمويل)، وذلك على الرغم من فتح الأمم المتحدة تحقيقاً بشأن المزاعم، لم تتعاون إسرائيل معه، وفق ما أكد المفوض العام لـ«الأونروا»، فيليب لازاريني.
تجميد مخصصات التمويل من قبل تلك الدول، وضع «الأونروا» في موقف خطير يهدد مستقبل استمراريتها، وقد حذّر لازاريني من مثل هذا الأمر في رسالة وجّهها إلى رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة، قال فيها: «الوكالة وصلت إلى نقطة الانهيار، مع دعوات إسرائيل المتكررة لتفكيكها وتجميد تمويل المانحين في مواجهة الاحتياجات الإنسانية غير المسبوقة في غزة». لكن الخشية تبقى قائمة على الرغم من تراجع معظم الدول عن تجميد التمويل، إذ إن نيات إسرائيل وداعميها في الغرب واضحة إزاء شطب قضية اللاجئين الفلسطينيين، لجهة شطب حق عودتهم إلى مدنهم وقراهم، عملاً بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194.

مشاريع لتصفية حق العودة
أراد المجتمع الدولي (الغربي) من إنشاء «الأونروا» في سنة 1949، تحويل قضية اللاجئين الفلسطينيين من قضية سياسية إلى مسألة إغاثة. فقد عملت إسرائيل منذ البداية على تعطيل لجنة الأمم المتحدة للتوفيق بشأن فلسطين (UNCCP) التي تأسست في كانون الأول 1948، وضمّت في ذاك الوقت كل من (الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وتركيا) وكان من ضمن مهامها الحماية وإيجاد الحلول.
لكن مشاريع توطين لاجئي فلسطين حيث أقاموا بعد عام 1948، وفي دول أُخرى، جاءت من الولايات المتحدة التي طرحت العديد من تلك المشاريع، ومن أبرزها: مشروع جون فوستر دالاس (1955-1956) لتوطين اللاجئين في الأماكن التي يتواجدون فيها؛ مبادرة روجرز (25 حزيران/ يونيو 1970) الداعي إلى تطبيق القرار 232 بديلاً من القرارات الدولية ذات الصلة بفلسطين (181 و194 على وجه الخصوص)؛ مشروع ريغان (1982) الداعي إلى حكم ذاتي فلسطيني في الضفة وغزة تابع للأردن بشرط عدم تشكيل أي خطر أمني على إسرائيل؛ مبادرة جيمس بيكر (1989) على أساس القرارين 242 و338، من دون دولة فلسطينية؛ إعلان الرئيس جورج بوش الأب (1991) للسلام بناءً على القرارين 242 و338 و«مبدأ الأرض مقابل السلام»، الذي كان منطلقاً لمفاوضات سرية بين ممثلين عن منظمة التحرير وإسرائيل، وأفضى إلى اتفاق «أوسلو» في سنة 1993، الذي رسم حدوداً تجاوزت فيها إسرائيل القرار 181 الصادر في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، والذي أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجبه تقسيم فلسطين إلى دولتين واحدة يهودية (55% من الأراضي) والثانية عربية (45% من الأراضي)، إذ اعترفت المنظمة بشرعية الحكم الإسرائيلي على الـ 78% من فلسطين التاريخية، على الرغم من أن إسرائيل اكتفت بالاعتراف بشرعية تمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني من دون أن تعترف بحدود دولة فلسطين المُفترضة على الـ 22% من مساحة فلسطين التاريخية (الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة).

«الأونروا» والقانون
لم يتوقف الدور الأميركي الساعي لتصفية قضية اللاجئين عبر الإلغاء العملي للقرار 194، فهو متواصل، وكان واحداً من فصوله، في سياق تحضير الرئيس الأميركي دونالد ترامب لـ«صفقة القرن» أواخر عام 2018، عندما قرر وقف تمويل «الأونروا».
تكمن أهمية الوكالة ليس عبر عمليات الإغاثة، وخصوصاً قطاعي التعليم والصحة والبنية التحتية للمخيمات، إنما باعتبارها رمزاً لنكبة فلسطين، واعترافاً دولياً بالنكبة وبحق العودة الذي يرد صراحة، وإن كان من دون ذكر ذلك حرفياً، في ديباجة قرار تأسيس هذه الوكالة الدولية، وبالتالي فإن تفكيكها يعني خسارة فلسطينية بهذا الاعتراف الدولي.
انطلاقاً مما سبق، فإن من الخطأ الربط بين ما جرى بعد 7 تشرين الأول 2023، وقضية الإبادة الجماعية التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وغير ذلك من قضايا راهنة، وبين مشاريع تفكيك «الأونروا» وتصفيتها، لأن المستهدف ليس الأونروا ككيان أممي، بل الإلغاء العملي للقرار 194.
إن الوضع القائم حالياً يشي بأن احتمالات نجاح تفكيك «الأونروا» وتصفيتها حاضر عملياً، إن لم يكن متاحاً قانونياً، إذ إن التفاف الرأي العام العالمي حول مناصرة الفلسطينيين إزاء ما يُرتكب من جرائم بحقهم في غزة والضفة الغربية، وتأثير ذلك على قرارات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، قد لا يتيح التصويت على تصفية الوكالة، لكن على أرض الواقع، يمكن تفكيكها بسهولة عبر التوقف عن تمويلها، وخصوصاً أن إنشاء «الأونروا» جاء بقرار استثنائي يُجدد كل 3 أعوام، الأمر الذي يجعلها محكومة بقرارات المموّلين. وعلى الرغم من اضطرار الدول الغربية المموّلة لها إلى التراجع عن قرار التجميد، فإن مجرد مسارعتها إلى التجميد بعد رمي إسرائيل تهمتها لـ 12 موظفاً بالمشاركة في أحداث 7 تشرين الأول، يشي بأن مسار التفكيك العملي للوكالة الدولية ممكن أن يُطلق في أي وقت، مع التأكيد أن هذا القرار كان تعسفياً وجائراً، وبمثابة عقاب جماعي استهدف نحو 6 ملايين لاجئ فلسطيني عموماً في مناطق عمل «الأونروا» الخمس، وبشكل مباشر أهل غزة الذين يتجاوز عددهم 2,3 مليون نسمة منهم نحو 1,5 مليون لاجئ، وهم أكثر المتضررين، حيث سيتوقف برنامج الطوارئ الخاص بهم. وفي جميع مناطق عمل الأونروا: ما يناهز 30 ألف موظف؛ 550,000 طالبة وطالب و 706 مدارس؛ 140 عيادة صحية ضمن 58 مخيماً وعشرات التجمعات؛ برنامج الطوارئ الخاص بسوريا؛ برامج الأمان الاجتماعي التي يستفيد منها نحو 300 ألف حالة عسر شديد؛ برنامج رعاية (الحوامل) الأم والطفل؛ برنامج ترميم المنازل الآيلة للسقوط؛ برنامج القروض التشغيلية؛ مشاريع إعادة تأهيل البنية التحتية.

الوحدة في مواجهة التصفية
إن مواجهة مخططات تصفية قضية اللاجئين، كجزء من مخططات تصفية القضية الفلسطينية تتطلب رؤية فلسطينية جامعة، تعتمد جميع أشكال المقاومة: المسلحة والسياسية والدبلوماسية والثقافية، وأولاً وأخيراً إنهاء الانقسام المتمثل حالياً بحركتي «فتح» و«حماس»، وهو انقسام كان قائماً قبل تأسيس «حماس»، بين «فتح» وفصائل العمل الوطني الفلسطيني الموسومة باليسار الغائب حالياً عن الفعل الحقيقي، والفاقد لدور يجب أن تلعبه فصائله لجهة تكوين قطب ثالث بين الحركتين المتنافستين.
لقد عانت مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين بعد اتفاق «أوسلو» من تهميش، أثمر في تسعينيات القرن الماضي نشوء تنظيمات إسلامية متطرفة، وخصوصاً في مخيم عين الحلوة في لبنان، إذ شغلت هذه التنظيمات الفراغ الذي تركته منظمة التحرير، ولاحقاً في مخيم نهر البارد الذي دُمر عن بكرة أبيه في الحرب بين «فتح الإسلام» والجيش اللبناني.
هذا التهميش الذي يبدو شكلياً قد تراجع، فإنه عملياً لا يزال قائماً من خلال مساعي استغلال مجتمعات اللاجئين لغايات تسجيل من هم الأكثر تمثيلاً، بينما المطلوب التخلي عن الفصائلية المقيتة لمصلحة إنشاء حركة وطنية فلسطينية، تكون نتاج مراجعة شاملة لجميع التجارب التي مرت بها القضية الفلسطينية، ووضع مسألة تحرير فلسطين هدفاً مقدّساً لا مساس به، لا تحل مكانه أي أهداف مرحلية.
إن دراسة تجربة جنوب أفريقيا ضرورية للفلسطينيين؛ فهدف التخلص من نظام الفصل العنصري مثّل الهدف النهائي لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي بقيادة نلسون مانديلا الذي فاوض هذا النظام بدءاً من تأمين الملبس الملائم لقيادات الحزب المعتقلة في جزيرة روبن، وصولاً إلى التفاوض على تفكيك نظام الفصل العنصري، وبجميع الوسائل المتاحة، ومن بينها الكفاح المسلح الذي تواصل خلال جميع المفاوضات.

  • الأخبار اللبنانية
تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *