لا تكون الفتيات الفلسطينيات قد تجاوزن بكثير مرحلة الطفولة حينها، لكن ما إن يصبح بوسعهن الإمساك بالإبرة والخيط، حتى تأخذ الجدات في تعليمهن ذلك التطريز المميز، وتبدأ الفتاة في تزيين الثياب بأناملها الصغيرة، وتطرز على مهل أجمل أثوابها في انتظار عرسها، تتفنن في اختيار الألوان والغرز، وتسابق رفيقاتها في تطريز الغرز الأجمل، تمر الشهور وهي تطرز غطاء الرأس وأغطية الوسائد ومحارم العريس، وكأن براعتها في التطريز كنز تدخره لذلك اليوم، لتبدو مميزة أمام الفتيات الأخريات وعريسها القادم.
كانت الفلسطينية تنسج على ثيابها حكاية العمر، وقصة البلاد، الثوب بما يحمله من نقوش وألوان يشير إلى القرية وأحوالها ويشي بالكثير عن أحوال صاحبته وحياتها ووضعها الاجتماعي، كان التطريز جزءا مهما في حياة المرأة الفلسطينية، تزين به مقتنياتها وتعلمه لبناتها فينتقل عبر الأجيال.
وفي زمان النكبة، خرجت نساء القرى في فلسطين بتلك الثياب التي تحمل قصة أيامهن، وبقي الثوب، مع مفتاح الدار، إحدى الذكريات القليلة التي حملتها النساء، بعد ضياع الأرض. سيقف الزمن لسنوات حتى تلتفت الفلسطينيات إلى محاولات أخرى للسطو، إذ لم يسلم الثوب -مثل كل التراث الفلسطيني- من محاولات السرقة والطمس، وصار ميدانا لمعركة أخرى للسطو عليه والادعاء بأنه أحد الموروثات “الإسرائيلية”، لتجمع النساء في مواجهة ذلك قصة الثوب الفلسطيني، والتاريخ الذي طرزته كل امرأة فلسطينية عليه.
لا يخلو التأريخ للتطريز الفلسطيني من بعض الصعوبة، إذ لا تقاوم الأقمشة والخيوط عوامل الطبيعة لفترات طويلة، فتهترئ مع مرور الوقت، لذا فإن أقدم الأقمشة والتطريزات التي أمكن البحث عنها والتأريخ لها تعود إلى بدايات القرن العشرين ومع ذلك، تشير المصادر التاريخية إلى انتشار مشاغل النسيج في أنحاء فلسطين في العصور الإسلامية، وكانت غزة أقدم المدن التي اشتهرت بصناعة النسيج إلى جانب المجدل والناصرة
كانت القرويات والبدويات يطرزن بخيوط الحرير والذهب والفضة منطقة الصدر والأكتاف والجوانب والأكمام في الثوب، يختلف الشكل بحسب المنطقة الجغرافية، وحين تتجمع النساء في الأسواق كان بالإمكان تمييز المنطقة التي تنتمي إليها كل واحدة منهن، من التطريز الذي يزين ثوبها، ويمكن حتى تحديد القرية من الرسوم والوحدات التطريزية وطريقة تنسيق الثوب.
رسمت نساء حيفا البرتقال، وفي الجليل بشمال فلسطين كانت الأزهار وأوراق الشجر المطرّزة بالخيوط الحمراء والزرقاء تميز الأثواب، في قرى نابلس وطولكرم يمكن أن نلاحظ كيف تقل التطريزات، وتُزين الاثواب بشرائط ملونة، وفي بيت لحم تُستخدم خيوط الذهب والفضة في تطريز زخارف نباتية وتصاميم على شكل حليّ، وفي الخليل نسجت النساء أشكال العنب والزيتون، وفي بئر السبع حيث تقل الأشجار استوحت النساء نقوش ثيابهن من السماء فزينّها بأشكال النجوم
كانت أيام التسوّق والأعياد فرصة النساء المثالية لتبادل الرسوم والتعرف على نماذج تطريز مختلفة، وكان الزواج بين الرجال والفتيات من قرى مختلفة فرصة أخرى لنقل الرسوم بين القرى المختلفة، ثم تطورت وسائل النقل من قطارات وحافلات وسهلت التنقل بين القرى وتزاور الأهل، وتبادل الرسوم التطريزية، وهكذا عبر الأجيال أكسبت التغييرات البسيطة الثوب رونقا متجددا، وأرضت رغبة النساء في خلق عالمهن الجمالي الخاص.
أما عن الألوان فقد استوحى الزي الفلسطيني ألوانه من الطبيعة؛ من الزعفران كان اللون الأصفر، ومن لحاء الشجر كان اللون البني، ومن نبات النيلة جاء اللون الأزرق، ومن حيوانات الموركس الصدفية التي تُجلب من ساحل البحر المتوسط جاء اللون الأحمر.
في العادة كانت ألوان التطريز تحكي عن حياة المرأة؛ فالفتاة ترتدي ثوبا مطرزا باللون الأزرق، بعد الزواج تطرز أثوابها باللون الأحمر، والأرملة تغطي الغرزة الحمراء باللون الأزرق، وتطعّمها بألوان أخرى، وحين تكبر المرأة بالعمر تميل لاختيار تطريزات أخف، وتختار ألوانا داكنة.
أنواع التطريز والغرز كانت مميزة أيضا، في القرى التابعة ليافا ورام الله والخليل وغزة وبئر السبع لبست النساء الزي التقليدي، وكانت غرزة التطريز الفلاحي تُستخدم بكثرة، في مناطق أخرى من فلسطين مثل القدس وبيت لحم تظهر غرز أخرى مثل التحريرة والتلحمية، فيما كانت نساء المدن يلبسن لباسا متأثرا بالزي العثماني.
كانت الأحداث تُلقي بظلالها على النقوش والتطريزات التي يحملها الثوب الفلسطيني، وبينما حملت الثياب عناصر الطبيعة في كل قرية؛ الزهرة والسنبلة وعباد الشمس والنخيل وزهر البرتقال، أضاف كل جيل عنصرا تأثر به، ودخلت عناصر أخرى شيئا فشيئا، فمن وحي العَلَم العثماني مثلا ظهر في التطريز الهلال والنجمة.
لفترة طويلة، كانت الأقمشة محلية منسوجة يدويا، ولكن خلال فترة الانتداب البريطاني تأثر إنتاج الأقمشة محلية الصنع، وبدأ استيراد أنواع مختلفة من الأقمشة الأوروبية. ونتيجة لذلك، اختلفت أنواع الخيوط وأنماط التطريز. كان القماش المستورَد كان أكثر نعومة ودقة، لذا لجأت النساء إلى استخدام “الكنفا” ذات الفتحات العريضة لوضعها فوق القماش ليصبح التطريز أيسر، ودخلت خيوط القطن الدقيقة التي تصنعها الشركة الفرنسية “DMC” إلى السوق الفلسطيني (10). ظهرت حينها ألوان جديدة على التطريز الفلسطيني وأصبح بالإمكان استخدام أشكال ومجسّمات أكثر تعقيدا مثل الجِرار والحيوانات والطيور والأزهار، وشاع نقل الرسوم من مخططات ونماذج مختلفة (باترون) تنشرها المجلات والكتب.
وفي السنوات القليلة قبل النكبة، ومع تأثر كل مناحي الحياة في فلسطين، حالت الضائقة المالية دون الوصول إلى الأسواق وتوفر ثمن الخيوط والأقمشة التي اعتادت النساء الحصول عليها، وكان من النادر أن تنتج النساء أثوابا جديدة. وبعد النكبة، ومع الضائقة المالية، كان بعض نساء القرى يلجأن بسبب الحاجة إلى بيع أثوابهن إلى المتاحف، وكانت الباحثة الفلسطينية وداد قعوار إحدى مَن تسابقن للحصول على تلك الأثواب الثمينة، واليوم يبلغ عدد الأثواب التي تحتفظ بها في متحفها نحو ثلاثمئة ثوب عربي.
في مقدمة كتاب “التطريز الفلسطيني: غرزة الفلاحي التقليدية”، تقدم المؤلفات، وعلى رأسهن وداد قعوار، الشكر إلى الأخوات “أم صالح” و”أم إبراهيم” وغيرهن ممن قمن بالنسخ المتقن للنماذج التطريزية القديمة، ليمكن التعرف على الشكل القديم لها، تحكي قعوار عن متعة جمع الثياب وتأملها، تلك التي لا يضاهيها سوى الاستماع إلى الفلاحات، صاحبات تلك الثياب والحكايا التي يخبّئنها، تعلق أيضا على أن كثيرات منهن كن يرفضن بيع الثوب.