متنقلًا بين الفنون الموسيقية المختلفة، من التلحين والغناء إلى صناعة الموسيقى وتوظيفها داخل الأوبرا، يحمل الفنان الفلسطيني منعم عدوان عُوده على كتفه ويخطف مستمعيه بصوته الشجي، وتسرقهم ألحانه التي تنزف بالحنين، ويأسرهم مزيج من حُزنٍ وشجن يلازمان حنجرته التي ما صدحت إلا بالجمال المُعذب، يحدث هذا كله حتى لو كان الاستماع إلى تلك الأغنيات عن طريق الصدفة التي من خلالها تعرفت على فن منعم عدوان.
بطاقة هوية
ولد منعم عدوان في مدينة رفح جنوب قطاع غزة عام 1970 وتعلم في مدارسها ثم التحق لدراسة الموسيقى في جامعة قرجي للفنون التشكيلية بمدينة طرابلس الليبية، لينتقل بعدها إلى باريس لدراسة الموسيقى التي درسها ضمن دورات تدريبية في أنواع ومجالات مختلفة.
كان التحول الحقيقي في حياة عدوان الفنية عام 2008 حينما بدأ العمل مع أوبرا “الأرت ليريك” بمدينة إكس أون بروفانس Aix-en-Provence في فرنسا وكانت أول أعماله فيها تلحين مقدمة موسيقية مختلفة عن تلك التي كتبها المؤلف الموسيقي النمساوي موتسارتWolfgang Amadeus Mozart في “أوبرا زايد” التي تعتبر آخر أوبرا كتبها موتسارت ومات قبل إكمالها.
جعل هذا العمل منعم عدوان يفكر في كتابة أعمال أوبرالية شرقية مستوحاة من الإرث الثقافي في المشرق، تزامن ذلك مع إصداره عددًا من الأغنيات التي جذبت جمهورًا ذا ذائقة فنية مختلفة.
مُغنيًا ومُلحنًا
“أنا المغني الأول لألحاني، فقد أبوح بها في البداية للأقربين فإذا أثنوا على اللحن بصوتي أحتفظ به لنفسي، وعندما أرى الأفضلية فيه لمطربين آخرين أترجل عنه بكل حُب”، هكذا تحدث منعم عدوان لـ”نون بوست” عن ألحانه وأغانيه.
لحن وغنى عدوان العديد من الأغنيات في ألبومات مختلفة صدرت له بالإضافة إلى أغنيات منفردة، كثيرٌ منها من كلمات الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي يقول عدوان عنه في حديثه إلى “نون بوست”: “درويش هو الموسيقي الأبرز الذي فضحه شعره، ما إن تنطلق في القراءة له حتى يدُب الإيقاع دبيبه وتنسحب الكمنجات وتأخذ بيد الكلمات للتراقص في ساحات الموسيقى دون قصد منك”.
يعتبر عدوان أبيات محمود درويش عصا لغته وقصائده قضيته ودواوينه شواهد على غربته ومنفاه، فغنى نحو ثلاثين أغنية من قصائد درويش منها: لا ينظرون وراءهم ليودعوا المنفى، ياسمين على ليل تموز، سليمان “جزء من جدارية درويش”، أرى ما أريد من البحر، عاشق من فلسطين، وغيرها.
أوبرا كليلة ودمنة
لحن منعم عدوان أوبرا “كليلة ودمنة” التي شاركت في مهرجان “إكس أون بروفانس” بالجنوب الفرنسي منتصف عام 2017، وتعتبر أول أوبرا باللغة العربية تشارك في المهرجان، ويستند العمل إلى نص “كليلة ودمنة” لابن المقفع الذي كتبه الفيلسوف الهندي بيدبا، وكتبه بالمحكية السورية للأوبرا الشاعر السوري فادي جومر.
عزز نجاح ذلك إعجاب عدوان بقدرة ابن المقفع على السرد وحرفية النص والقدرة على طرح الفكرة وكتابة النص، مما جعله ينتمي إليه، فمنحه وقتًا وجهدًا كبيرين إيمانًا بأهمية نصه وتقديرًا للدم الذي دفعه ابن المقفع ثمنًا لكتابته.
يقول عدوان: “كليلة ودمنة كانت الاختبار الأول أمام جمهور فرنسي تحتفظ ذاكرته بعشرات الأعمال الكلاسيكية لموتسارت وڤيردي ومونتفيري وڤاغنر وغيرهم من عمالقة موسيقيي الغرب، فكان التحدي تقديم عمل يتقبله الجمهور دون تعقيد، من حيث النص والموسيقى، فجاءت هذه الأوبرا للرد على تساؤلاتي وحيرتي”.
كان هذا التنوع بمثابة المفتاح الذي حرر الأوبرا الأوروبية من الحصار الذي فرضه الموسيقيون الكلاسيكيون عليها، فتوالت العروض في عدة مدن أوروبية وعربية بعد أن حققت نجاحها، وستستمر العروض في جولات تنتهي في 2023، يصف عدوان هذا النجاح بقوله: “نجاح العمل جعل دار الأوبرا تفتح أبوابها لجديد الموسيقى؛ فكان العمل الذي يليه أوبرا “أورفيو والمجنون” من إنتاج دار الأوبرا في بروكسل وعرض باللغتين العربية والإنجليزية ويحتوي على أوركسترا شرقي وآخر غربي”.
يعمل عدوان الآن على تلحين أوبرا جديدة بعنوان “منطق الطير” للشاعر الفارسي المتصوف فريد الدين العطار من القرن الثاني عشر، ويرى عدوان أن الأوبرا تعتبر أم الفنون، فهي القالب الذي تصب فيه كل الأشكال الفنية لتشكل في نهاية المطاف تحفة فنية عبارة عن عُصارة الإبداع الفني”.
قصة أغنية
وسحجوا على الكفوفي
أجت أمه.. يا عزيزة يا مغندرة
يا دمعو يا سكرة
عريسنا مبدر عَ وين، عريسنا بغفي العين”
وقف منعم عدوان على خشبة المسرح وغنى بوجع يُرعش القلب كلمات إبراهيم المزين هذه التي تجسد قصة الشهيد موسى حنفي خلال مشاركته في إحياء إحدى الفعاليات الوطنية بجامعة بيرزيت في ذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية بتاريخ 1-1-1987 التي تحولت إلى مواجهة دامية مع قوات الاحتلال الإسرائيلي استشهد فيها الطالب موسى حنفي من مخيم الشابورة جنوب قطاع غزة برصاص قناص إسرائيلي.
فحمله رفاقه إلى أحد بيوت بلدة بيرزيت كي لا يختطف الجنود جثمانه، ثم اشتدت المواجهات وحضرت تعزيزات عسكرية كبيرة للبحث عن الشهيد، فما كان من رفاقه إلا أن تناقلوا جثمانه من بيت إلى بيت داخل القرية، حتى نقله أحد أساتذة الجامعة إلى غزة مسقط رأسه، فوُضع الشهيد بين شابين قاما بسنده على كتفيهما، ولفا رقبته المُصابة بكوفية، وألبساه نظارة شمسية، وعبروا به حواجز الاحتلال بين الضفة الغربية وغزة، وقالوا للجنود وقتها إن موسى مريض ومُغمى عليه، ليعودوا به إلى أمه التي انتظرته بالزغاريد والدموع، وأكمل عدوان أغنيته تخليدًا لروح الشهيد وغنى:
“أمو ردي يا أمو الورد ليش ملثم ثمه..
والحديد على كتفو ما همو ما همو..
مع الندى طالع، طالع لحالو..
قزولوا خواله تَ يلفو يلمو جماله”
بالإضافة إلى التلحين والغناء، يُمارس منعم عدوان هوايات أخرى كالرسم وكتابة الشعر، كما شارك في صناعة موسيقى تصويرية استوحاها من التراث الفلسطيني للعديد من الأفلام التسجيلية والوثائقية مثل وثائقي “العابرون على جلد غزة” و”بعض فتافيت الخبز للحمام” و”غزة تحت التراب” و”غزة 2010″.