من القرية إلى الخيمة
” من سطوح منزلنا في بيت عنان شاهدت الطائرات الحربيّة تحوم في سماء قريتنا. كان والدي قد حزم أمره: النزوح مشطوب من جدول الاحتمالات. لكن، على وقع الحرب، ازدادت المخاوف من ارتكاب الاحتلال مجزرة، ما دفعه إلى القرار المرّ، تهجّرنا.
على ظهر شاحنة كبيرة غادرنا مع مجموعة عائلات من أهالي القرية الواقعة شمال غرب القدس. ما زلت أرى في مخيّلتي المركبات المحروقة والجثث المتكوّمة في طريقنا نحو الجسر، الذي كان مقطوعاً نتيجة الاستهداف “الاسرائيلي”. لوحة خشبية هشّة كانت تصل بين الضفتين، بقيت خلف أسرتي متوجّساً خائفاً من العبور، تقدّم نحوي جندي “إسرائيلي” ليمسك بساعدي ويساعدني على قطع النهر، صرخت، دفعته وركضت لألحق بالركب. في الأردن، عند اللحظة الأولى، ظهر المعنى كاملاً قاسياً، متجسّداً بوجوم الوجوه التي تلوح بعيونها نحو الخلف، لقد أصبحنا لاجئين.
وأنا، كنت ولداً، لم أتخطّ الستّة أعوام. عشت الحرمان والجوع والطين والوحل، والنكسة”.
**
يتلوّى العقل الذي يجرّب منذ أكثر من 6 أشهر أن يفكّر بما يعتمل بقلب طفل في غزّة، لم تترك له الإبادة متّسع من الأحلام ولا من الآنيّ الحاضر العصيّ على العيش! كيف سيكبر طفل من غزّة وماذا سيكون؟ هل سيكبر؟ تتحطّم معاني الحياة وأدواتها التي صارت أساسياتها ترفاً يؤرّق من ينظر إلى الجريمة بكامل وعيه، كي لا ينسى. يتحطّم كل شيء مقابل كيس طحين، وأنبوبة أكسجين ووجبة دمّ، وطبيب يستلّ الحياة من نفق الموت الطويل، أو رجل ينتشل روحاً كالمعجزة، أو طفل ينجو من الغارة فتفتك به “المساعدات”.
هل بعد الأشلاء في غزة، يصحّ أن يبقى متسع لشيء كالفنّ؟ كالموسيقى والأدب والسينما؟ لكنّ العالم يدور من دون توقّف، ممسكاً بخيوط القصة مجتمعة، فالقصّة ألواح متراصّة تشكّل قطعة واحدة عصيّة على الكسر والنسيان، إنّها: القضيّة.
يقول فوزي إسماعيل، رئيس “جمعيّة الصداقة سردينيا – فلسطين”، في حواره مع “الميادين نت” إن: “صمود الشعب الفلسطيني في الوطن أهم شيء، فنحن فقط نُظَهِّر هذا الصمود للغرب، ولم يكن العالم بشعوبه اليوم ليقف إلى جانب غزّة في ملحمتها، لو لم تكن غزّة منتصبة، صامدة، تقاوم الإبادة بأظافرها. هذا يجعلنا أقوياء اكثر في الخارج ويدفع الناس للاقتناع بروايتنا”.
أن تصمد، أن تناضل في الأرض، وأن تواجه الظلم والبطش والاقتلاع والسرقة، والموت الذي يأتيك برزمة واحدة تسمّى الاحتلال، هو القاعدة لكل شيء، ومن بعدها تُستمدّ أهمية كلّ ما يليها من الأشياء. وكذلك كل ما يتبعها من جهود أصدقاء فلسطين وأبنائها في أقطار العالم.
مهرجان الأرض
على مدار 20 عاماً، استطاع “مهرجان الأرض للسينما” الذي أطلقته “جمعية الصداقة سردينيا – فلسطين”، أن يمدّ جسراً بين فلسطين بهواجسها وأوجاعها نحو الجمهور الايطالي ولا سيّما من يتعطّش منه للانكشاف والمعرفة والتضامن. فقد عرض المهرجان ضمن دوراته السنويّة ونشاطاته الأخرى، ما يقرب من 800 فيلم وثائقي تسلّط الضوء على القضيّة الفلسطينية، وقضايا التحرّر الوطنيّ والهيمنة الاستعماريّة والرأسمالية في العالم العربي وفي العالم عموماً، وهي بالمناسبة متعددة الأوجه وكثيرة. بل إنّه ذهب أبعد من ذلك، واستطاع من خلال هذه الثيمة القيمية في برامجه ونشاطه الدؤوب على مدار عقدين، أن يحكي ببساطة، عن الإنسان، وعن حقّه بالعيش بكرامة وحريّة.
في موقعه الالكتروني يعلن المهرجان أن: “مهمّتنا رفع الوعي حول الظروف المعيشية في فلسطين. حيث يناضل الشعب الفلسطيني لأجل حريته ضد الاحتلال الاسرائيلي المتواصل، ويكافح الفلسطينيون في مخيمات اللاجئين الفلسطينية داخل وخارج فلسطين، لأجل حقّ عودتهم”.
في الحقيقة يضع هذا الإعلان الصريح المباشر والمقتضب من قبل المهرجان قضية ملايين الفلسطينيين والأحرار في العالم في نصابها الواضح والواقعي، وبهذا الإطار يقدّمها الى جمهوره دونما تأتأة كقضية شعب يملك الحقّ بالعيش على أرضه، وبكنس الاحتلال عنها.
من نشاط سينمائي محليّ، في مدينة ” كالياري” كبرى مدن جزيرة سردينيا وعاصمتها، في خضمّ الانتفاضة الثانية عام 2002، انطلقت فكرة المهرجان، استناداً إلى مبدأ أن الصورة والثقافة عنصران مؤثّران في وعي الناس كما في استمالة تعاطفهم. ومذّاك تطوّر المهرجان الذي يقوم على نشاط عشرات المتطوّعين الفلسطينيين والإيطاليين والعرب المغتربين في الجزيرة الإيطاليّة، ليجني مع مرور السنين سمعة دولية، بحيث أصبح واحداً من أبرز المهرجانات في أوروبا، التي تُكرّس للتعريف بالقضية الفلسطينية وخدمتها.
يستضيف المهرجان سنوياً عشرات الأفلام حديثة الإنتاج، التي تضيء على جوانب مختلفة من معاناة الشعب الفلسطيني، وكفاحه وأمانيه وإنجازاته وتاريخه. ويخصّص مساحة للقضايا العربية والإنسانية بشكل عام. كما يستضيف في كل دورة العديد من صنّاع السينما والعاملين فيها بما يشكّل ملتقى حوارياً لهم وفرصة لتبادل خبراتهم وتجاربهم وقضاياهم.
وفي هذا الإطار بالذات يسمح بلقاء ذهبي للفلسطينيين أنفسهم، ممن يستحيل أن يلتقوا معاً على تراب وطنهم بسبب الاحتلال، فتجد أبناء غزّة مع أبناء الشتات والمخيّمات والداخل المحتل والضفة في قاعة واحدة! بل وعلى مائدة عشاء واحدة أيضاً.
في دورته الأخيرة التي عقدت من 20 إلى 24 شباط/فبراير الماضي، خصّص المهرجان أفلاماً وندوات عن غزّة، وواقعها من الحصار إلى الحرب الإجرامية المتواصلة عليها. فضلاً عن مجموعة متنوّعة من الأفلام الوثائقيّة القصيرة والطويلة من العراق والجزائر والصحراء الغربيّة، وكذلك مجموعة من الأفلام الخياليّة القصيرة، فيما تنافس ما يزيد عن 20 فيلماً ضمن الفئات الثلاث هذه.
وعن جائزة أفضل فيلم وثائقي طويل فاز فيلم “في ظلّ بيروت” الذي يرافق يوميات قاسية لعدّة أسر في صبرا وشاتيلا عن قرب وبلغة سينمائية جميلة.
أما جائزة أفضل فيلم وثائقي قصير فحصدها فيلم “معادن ثقيلة”، حول فتيات يكسرن القوالب الاجتماعية النمطية في مخيم البقعة للاجئين الفلسطينيين في الأردن، ويخضن مسابقات دولية في رياضة رفع الأثقال.
ثم فيلم “عمي اعطيني سيجارة” الذي حصد جائزة أفضل فيلم خيالي، وهو فيلم رسوم متحرّكة قصير ثاقب وحادّ، مأخوذ عن نصّ نشره الأسير الفلسطيني وليد دقّة عام 2011، والذي استشهد في 7 نيسان/أبريل الجاري، بعد 38 عاماً في سجون الاحتلال، نتيجة الإهمال الطبّي المتعمّد والتضييق الكبير على الأسرى الفلسطينيين، منذ بدء العدوان على غزّة. ولا تزال سلطات الاحتلال تحتجز جثمانه، وتمنع تشييعه ودفنه، حتى كتابة هذه السطور.
ويروي الفيلم قصّة طفل (12 عاماً)، يفاجأ الأسير دقّة به في الزنزانة يطلب منه سيجارة، ثم يحضر السجّان “الإسرائيلي”، ليستهجن من تدخين طفل بهذا العمر، فيقوم بتكبيله بالأصفاد والأغلال!
إلى جانب جوائز لجنة التحكيم الثلاث، اختار الجمهور أن يمنح جائزته لفيلم “تسلّق المقاومة” حول شاب أميركي يعود إلى جذوره الفلسطينية ويتعرّف على هويته من خلال هواية تسلّق المنحدرات، حيث يلتقي بمجموعة متسلّقين فلسطينيين ويخوضون التجربة معاً في منحدرات فلسطين.
وافتتحت الدورة العشرين بفيلم “لد” الذي يحكي قصّة تهجير الفلسطينيين من مدينة اللدّ عام 1948، وصولاً إلى الحاضر الذي استحالت اليه المدينة وقد تحوّلت كليّاً أقدار أهلها الباقين فيها والمهجّرين منها على حدّ سواء بفعل النكبة، ويطرح الفيلم سؤال: ماذا لو لم تكن النكبة؟ ويعالجه في إطار متخيّل للشخصيات والأمكنة.
وسلّطت الأفلام المشاركة عموماً الضوء على قصص الفلسطينيين في أرضهم وفي مخيّمات اللجوء الفلسطينية في الأردن ولبنان بقالب يطرح التحديات الاقتصادية والاجتماعية المستجدّة، وتداخلها مع الواقع السياسي والاقتصادي في كل من هذه المناطق والبلدان.
أما فيلم “هوامش طاردة”، فينسج شبكة من العلاقات المتداخلة بين الحرب في سوريا ومأساة اللاجئين السوريين في أوروبا عبر قصة عائلة فلسطينيّة تضطر للهرب من مخيم اليرموك في دمشق واللجوء إلى ألمانيا، ليتضح في نهاية السردية أن أصولها تعود إلى الناصرة وقد تهجّرت منها عام النكبة.
وعرض المهرجان كذلك أفلاماً تستحضر أرشيفات وثائقية فلسطينية، وخصوصاً للثورة الفلسطينية والتضامن العالمي معها ولا سيّما في لبنان. كما أفرد مساحة لقضايا تخصّ الواقعين السوري واللبناني، خاصة بعد انفجار مرفأ بيروت، وظلال الحرب الأهلية التي تستمر بانعكاساتها وتداعياتها حتى اليوم.
وعلى هامش المسابقة السينمائية، عرض المهرجان الفيلمين الوثائقيين الإيطاليين “سا تيرا- الإصبع والقمر” و”غابة بادينتي”، واختتم أعماله بعرض الفيلم الوثائقي من إنتاج قناة الميادين “سوريون في نصف جنّة”، الذي يتناول قضيّة السوريين في الجولان السوريّ المحتل، ونضالهم للحفاظ على هويتهم وجنسيتهم العربيّة السورية وسط ضغوطات وسياسات الصهر والأسرلة من قبل الاحتلال.
جمهور توّاق
كانت هذه زيارتي الثانية لمهرجان “الأرض” في سردينيا. في الزيارة الأولى، قبل نحو 8 سنوات، وجدت نواة فعّالة من المخلصين لفكرة السينما الوثائقية وتأثيرها، تعمل كخلية نحل لإنجاح المهرجان أمام جمهور بدا لي حينها، محصوراً بنوعيّة محدّدة من النشطاء أو المهتمّين بالشأن الثقافي والسياسي، والباحثين عن مادة سينمائية لا يمكن مشاهدتها في أطر أخرى.
أمّا في الدورة الأخيرة فكان واضحاً أن المهرجان نجح في إحراز نقلة نوعية بعد جهد سنوات، وبقيت قاعة “تياترو ماسيمو” وهو المسرح الأكبر في مدينة كالياري، مكتظّة بالجمهور التوّاق والملتزم بشدة تجاه البرنامج الحافل. وكم أذهلني اقتدار هذا الجمهور الذي يتلقى الأفلام مترجمة إلى الإيطالية أو الإنكليزية، على البقاء في مقاعده لساعات متواصلة، ينتظر مشاهدة فيلم بعد آخر.. وأيّ أفلام! ليست أفلام الترفيه والمتعة والتجارة، إنما وثائق سينمائية تطرح قضايا حارقة وموجعة، وإن حملت في طيّاتها متعة فنيّة وبصرية أو فكرية أو حتى طرفة، فإنها حتماً تكون مكلّلة بعناوين ثقيلة عن قضايا الانسان الفلسطيني والعربي، والانسان المسحوق عموماً تحت عجلة المطامع العالمية الكبيرة، القديمة والحديثة.
فعلاً، هذه المرة بدت لي العروض أشبه بنشاط تفاعلي من قبل الجمهور الإيطالي للتعبير من خلال التزامه، عن تعاطفه وتضامنه ومناصرته للقضية الفلسطينية، خاصّة وأن الدم الفلسطيني في غزّة كان يطفح في كل الشاشات، ولا يمكن لمن يحمل ذرّة من الإنسانية، إلاّ أن ينشقّ وينشرخ وجدانه، ويحتدّ وعيه تجاه فلسطين.
في حواره مع “الميادين نت” أكّد لنا فوزي إسماعيل، أن المهرجان برؤيته الاستراتيجية يمثّل “مواجهة وتصادماً حقيقياً مع الرواية الصهيونية الكاذبة المنتشرة في الغرب بشكل كبير”، وأن الهدف هو “كشف وتعزيز روايتنا كشعب فلسطين، من التاريخ والسياسة والثقافة والتقاليد، ودحض أكذوبة أن فلسطين هي أرض من دون شعب”.
ولتحقيق ذلك، يستقطب المهرجان بمنهجيّة مدروسة، الفئات العمرية الشابة من التلامذة والطلبة، من خلال تخصيص حصّة سنوية لهم من عروض المهرجان، والتي يقبل عليها المئات سنوياً، ضمن برنامج مشترك مع المدارس والجامعة في المدينة، وذلك لتوسيع دائرة المعرفة والاهتمام بالقضية الفلسطينية في أوساط الأجيال الجديدة من حيث الوعي والعدد، وعدم حصرها بالمثقفين اليساريين، وبالنشطاء السياسيين التقليديين منهم. كما ويحرص المهرجان على تنظيم عروض لأفلامه في باقي المدن الإيطالية.
ويضيف إسماعيل أن لهذا الجهد المتواصل أثر كبير، حيث بدأوا في “جمعية الصداقة سردينيا- فلسطين” يلاحظونه، من خلال إقبال ومشاركة دوائر جديدة من الشباب في النشاطات السياسية والتظاهرات الداعمة لفلسطين. وهي مشاركات مبنيّة على قاعدة التصديق بعدالة هذه القضية، نتيجة ما حصده هؤلاء الشبّان من اطّلاع، بفضل المهرجان السنوي أو غيره من الأنشطة الثقافية في الجزيرة وفي إيطاليا عموماً.
ثقافة، احتجاج سياسي، أم وطن صغير في أوروبا؟
ما إن تتناول فنجان القهوة الأوّل مع منظّمي المهرجان أو روّاده، حتى تطير الحدود. كيف تصير فلسطين حاضرة إلى هذا الحدّ في هذه البقعة من أوروبا؟
لا شكّ أن وحشية العدوان على غزّة أماط اللثام تماماً عن حقيقة الاحتلال في فلسطين أمام شرائح واسعة من الشعوب الغربية. لكن للنواة الصلبة المؤسسة للمهرجان هنا دور كبير في التأثير على التعاطي مع فلسطين. كانوا مجموعة من الطلاب الفلسطينيين الذين قدموا إلى إيطاليا عن طريق المصادفة والحظّ قبل عدة عقود بحثاً عن العلم والعمل، وعمّا يسدّ حاجة وأحلام عائلاتهم المهجّرة في الأردن أو سوريا أو لبنان، ولتعويضها ما خسرته. فلسطينيون أصبح “كرت المؤن” الحاصلين عليه من وكالة “الأونروا” بمثابة هوية تعبّر عن الوطن المفقود، وعن الرغبة الملحّة بالعودة إليه بأدوات أقوى،حرمتها النكبة من آبائهم وأمهاتهم. أحد الأصدقاء الذي تخطّى منتصف العقد الخامس من حياته، أخبرني أنه يحمل “الكرت” معه أينما ذهب، ولا يتردّد برفعه أمام من ينكر مأساة شعبه في أي محفل ثقافي وسياسي.
ياه! تخيّلته يرفع بطاقة الحكم الحمراء وسط اللعبة، مطلقاً صافرة الإدانة للعالم الصامت منذ 75 عاماً. كيف يسكت هذا العالم عن لجوئه؟ وكيف يواصل اللعب على أرضه؟
لم استجمع مفهوم التأثير المباشر لهؤلاء الفلسطينيين وأصدقائهم في سردينيا بشكل حيوي، إلا عندما تزامن اجتماع سياسي قبيل الانتخابات المحلية للجزيرة، مع عروض المهرجان في قاعة أخرى من المسرح نفسه. وكانت إيلي شلاين، زعيمة المعارضة في البرلمان الإيطالي حاضرة للخطابة فيه، في لحظة، امتلأ البهو بأعلام فلسطين التي حملها عدد من النشطاء والروّاد في المهرجان، وتحوّل بهو المسرح إلى تظاهرة احتجاجية جريئة لعدم اتخاذ المعارضة مواقف صريحة وفعّالة أمام الحكومة الإيطالية اليمينية لوقف حرب الإبادة على غزّة.
في اليوم التالي لهذا الحدث الاحتجاجي العفوي، كانت تظاهرة حاشدة تطالب بحريّة غزّة وفلسطين تهزّ لساعات العاصمة السردينية، وكم وجدت فيها وجوهاً مألوفة.
مهرجان الأرض هذا العام، أثبت لي من دون فلسفة فائضة، كيف يمكن للثقافة أن تكون أداة مقاومة حقيقية، وكيف يستطيع الفلسطيني أن يخدم مشروعه الوطني أينما كان وعلى طريقته.
يتذكر فوزي إسماعيل اقتلاع أسرته من قرية بيت عنان في قضاء القدس عام 1967. يتحدّث بلهجة فلّاحية فلسطينية خالصة لا تشوبها شائبة، ويحكي عن أول نشاطاته الثقافية السينمائية في الجامعة، رغم أنه درس الطبّ، إلّا أنّه أقام مع مجموعة أصدقاء منتدى للأفلام السياسية والاجتماعية، وكان أول عروضهم في العام 1981، فيلم عن “يوم الأرض”.
الهاجس هو تجاوز وإخماد السردية المسلوبة والمشوّهة وتعزيز السرديّة الفلسطينية التي تكالبت عليها أموال العالم بتوجيه اللوبي الصهيوني.
لبنة فوق لبنة ينجح الفلسطينيون وأصدقاؤهم في العالم اليوم في اختراق جدار الأكاذيب الإسرائيلية وتحقيق المزيد من التضامن والمناصرة لفلسطين، لكن خلف هذه “النجاحات” جنود مجهولين عملوا طويلاً في الكواليس، منهم مثلاً البروفيسور وسيم دهمش أحد أصدقاء المهرجان وداعميه، والذي عمل محاضراً لسنوات في جامعة روما، وعكف على ترجمة عشرات الكتب والادبيّات الفلسطينية والعربية إلى اللغة الإيطالية. يحكي دهمش الذي هجّر من قريته دهمش الواقعة بين اللد والرملة، حينما كان جنيناً في رحم والدته، قصّة انتصاره على المجزرة، حيث أصيبت والدته عام 1948 برصاصة استقرّت في بطنها وكانت تهدّد حياتها وحياته التي لم تكن قد بدأت بعد، لكنه ولد في دمشق وعاد إلى فلسطين على طريقته الفريدة بالكتابة عنها.
أخذتني هذه الشهادة الى غزة، حيث ستنتصر الحياة حتماً، رغم الموت الكبير وإبادة آلاف الأجنّة والمواليد الجدد.
في أروقة المهرجان تقاطعت حكايات كثيرة ومثيرة عن فلسطين وأبنائها الأوفياء. كانت فرصة ذهبية لنلتقي تحت مظّلة دافئة تشبه بلدنا، بتنوّع نكهاتها وخلفيّاتها وقصصها المستحيلة. ولكم سعدت بلقاء مصطفى، أحد فتية مخيّم الدهيشة، كما أذكره. كان قد أصيب قبل أعوام برصاص الاحتلال، ما خلّف لديه إعاقة دائمة، كنت التقيته في المخيّم خلال إعدادي لوثائقي عن “حرب الإعاقة”، عرض بعد ذلك في المهرجان، واليوم بات هذا الشاب ناشطاً فيه، وقد استحقّ منحة للدراسة في سردينيا.
يلتقي مصطفى وآخرون بفضل مهرجان ” الأرض” مع مونيكا ماورر، المخرجة الألمانية الثمانينية، التي تخالها بعد في عزّ نشاطها وطاقتها، وقد كرّست جلّ عمرها في خدمة القضية الفلسطينية وتوثيق ثورتها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وتكرّس جهدها اليوم لإتاحة أرشيفها الخاص والنادر للجميع.
ماورر، والى جانب الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله وشخصيات مهمّة أخرى، شكّلوا لسنوات عماد لجنة التحكيم الخاصة بمهرجان “الأرض”، وكانوا رسل فلسطين إلى الجمهور الإيطالي التوّاق والمحبّ.
يقول القيّمون على المهرجان إن الراية تسلّم اليوم للشباب، منهم الجيل الثاني من الفلسطينيين في سردينيا، أو من الشبان الإيطاليين الذين باتوا شركاء، بل إخوة حقيقيين في النضال لأجل القضية. لذلك، لم العجب من أن ترى علم فلسطين وشعارات الحريّة لها، خلف كل زاوية وزقاق في عاصمة هذه الجزيرة الجميلة؟