“هذا العالم يسحق العدل بحقارة كُل يوم…”
• غسان كنفاني-

منذ أنّ كتب غسان كنفاني تلك الكلمات إلى اليوم، ما يزال هو العالم نفسه الذي يُصر على سحق العدالة في كل يوم. هو ذلك العالم الذي يضع معايير الإنسانية والحضارة كما يحلو له، ويبرر الاستعمار والمجازر والإبادة الجماعية. هو نفسه ذلك العالم الذي ما تزال فيه القوى الإمبريالية والإرهابية والرجعية تستهر بدماء الشعوب وتضحياتها. وغير منفصل عن ذلك، نهج المنظمات الدولية التي تنصاع للقوى الإرهابية في العالم وتحاول تزوير الحقائق التاريخية، في هذا العالم، يقف الفلسطيني شاهداً كُل يوم على سحق العدالة بحقارة، في ظل الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة منذ السابع من أكتوبر.

قرارات المحاكم الدولية:
أصدرت لجنة محكمة العدل الدولية يوم الجمعة الموافق 25/5/2024، أوامر أولية تطالب فيها الاحتلال الصهيوني بالوقف الفوري لعملياتها العسكرية في مدينة رفح جنوب قطاع غزة وانسحاب قواتها. ولكنها لم تأمر بوقف كامل لإطلاق النار، ضمن القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا، واتهمت فيها الكيان الصهيوني بارتكاب إبادة جماعية. هذا على الرغم من وجود كافة الأدلة على ارتكاب الإبادة الجماعية والمجازر المتلفزة التي لا تدع مجال للشكّ، والتي يشاهدها العالم بعين واحدة.
سبق ذلك قرار للمحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 20/5/2024، بإصدار مذكرات اعتقال بحق الإرهابيان رئيس الكيان الصهيوني ووزير جيش الاحتلال. وفي المقابل تستكمل المحكمة نهج العدالة المنقوصة بإصدار مذكرات اعتقال بحق 3 من قاداة المقاومة الفلسطينية. وكان الردّ على تلك القرارات الصادرة عن محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية، أولاً من الإدارة الإرهابية للولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت “تردس” فرض عقوبات على محكمة الجنايات الدولية، وثاناً، -حسب التسلسل التاريخي- ارتكاب جيش الاحتلال الصهيوني مجزرة في رفح، فقط بعد يوم واحد من قرار محكمة العدل الدولية.
وفيما يتعلق بالقرارين وعلى الرغم من قيمتهما القانونية على المدى البعدي، إلاّ أنها من جانب آخر كانت بمثابة خطوات تنطوي على شيء من تزوير الحقائق التاريخية وتغطية على جرائم الاحتلال، ومحاولة إظهار المسألة وكأنها مرتبطة بأشخاص معينيين وليس بنظام استعماري إرهابي. كما أنّها قرارات دون إرادة سياسية للمجتمع الدولي لوقف الإبادة الجماعية، كما أنها قرارات دون استخدام الوسائل اللازمة للضغط على الكيان الصهيوني، عربياً ودولياّ.

الاعتراف بالدولة الفلسطينية أم بمرحلة التحرر؟
مسألة أخرى ثارت على المستوى الدولي، ولا تبتعد كثيراً عن نهج العدالة المنقوصة، وهي الاعتراف بدولة فلسطين، مرةّ أخرى وعلى الرغم من القيمة القانونية لتلك الخطوات، إلا أنّ الأولوية في هذه المرحلة التاريخية أنّ يتم بالاعتراف بالواقع كما هو، بكل شجاعة وبهدف تحقيق العدالة. ولذلك، لا بُد من الاعتراف بحقيقتين، الأولى وأنّ الكيان الصهيوني ليس دولة طبيعية، بل كيان إرهابي مُجرم ضد الإنسانية. والحقيقة الثانية، الاعتراف بأنّ الشعب الفلسطيني يعيش مرحلة تحرر، وعلى من يؤمن بالعدالة أنّ يدعم جهود التحرير.
بالإضافة إلى ذلك، من الضرورة بمكان الإشارة إلى أنه تمّ وسيتم تقديم الاعتراف بالدولة الفلسطينية للسلطة، الموجودة في موقع خارج التاريخ مُتمثل في موقفها المتخاذل، وداخل الجغرافيا، في قمعها للمقاومة في عموم فلسطين التاريخية، وحتى أنّ ذلك القمع تعدى حدود فلسطين بإرسال تحذيرات تهدف إلى منع إبداء دعم وتأييد المقاومة من قبل الحركات الطلابية في العالم والتي تُطالب بتحقيق شيء من العدالة.
وعلى الجانب الآخر، تنظر الأنظمة العربية لتلك القرارات إما كمدخل للتطبيع مع الكيان الصهيوني، أو لمزيد من الحماية الإمبيريالية الأمريكية للنخب الحاكمة المُعرفة بالخيانة وكأنهما رديفين. وترى في ذلك أيضاً إعفاء من مسؤولية تاريخية تجاه القضية الفلسطينية، والتضحية بحقوق الشعب الفلسطيني المتأصلة والكاملة وغير القابلة للتصرف، مُقابل تحقيق مصالح صرف شخصية.
العدالة المنقوصة.. قانون الاستعمار :
كان تعريف القانون الدولي الحرفي والعملي بأنه: “مجموعة من الأنظمة والمبادئ التي تلتزم بها الدول المتحضرة المتمدنة في علاقاتها بعضها مع بعض.” وفي الحقيقة لم يكُن ذلك إلا أداة لارتكاب وتبرير الجرائم ونزع الإنسانية عن الشعوب المُستعمَرة. وفي عالم اليوم يطرأ تغيير جذري على ذلك، بل تمّ إضافة بعض الكلمات لتشمل كُل الشعوب، ولكن الممارسة العملية ما تزال تصب في صالح القوى الاستعمارية. قانون العدالة المنقوصة هذا، لا يعني سوى شيء واحد، وأنه لا توجد عدالة.
وعلى الرغم من ذلك القانون الاستعماري ونهج العدالة المنقوصة، يوجد دائماً ما يصوب الاتجاه ويفرض حقائق ووقائع تاريخية جديدة، وهو النهج المقاوم، المؤمن بأن الحقوق تنتزع انتزاعاً والتاريخ لا يكتبه المنتصرين، بل يكتبه الغاضبين، الثائرين، الرافضين والمقاومين. وهو نهج لا يتوقف بل يُراكم إنجازاته النظرية والعملية. ويرسخ المقاومون المبادئ التي لا تنطفئ جذوتها في ضمير الشعوب، ويؤكدون أن مسيرة الكفاح لا تعرف الهزيمة ما دامت القلوب تنبض بالعزيمة والإيمان بقضية عادلة.

تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *