شهدت الفترة قبل السابع من أكتوبر جهوداً لإعادة صياغة المشهد الأمني في المنطقة العربية، وكانت عبارة عن محاولات لفرض نموذج أمني استعماري جديد، محوره الكيان الصهيوني ويدور في فلكه بشكل أساسي الأنظمة العربية الفاسدة والقمعية. قد تصح تسمية “النموذج الأمني” ولكنها ليست كافية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الهدف الأساسي من تلك المحاولات، والتي كانت –وما تزال- مُتمثلة بضرب المقاومة الفلسطينية. كما أنّ دور المقاومة وتطور أشكالها من شأنه وضع ذلك المفهوم قيد الجدل ولربما المُحاكمة.


محطات فارقة شكلت نقطة اللاعودة:
شكلت معركة سيف القدس مرحلة فارقة من حيث أخذ المقاومة لزمام المُبادرة بضرب الاحتلال رداً على محاولات التهجير في الشيخ جرح في القدس عام 2021، وبنهاية تلك المعركة لم يُكن الحديث عن نصر معنوي، بل كان هناك مكاسب عملية وملموسة تمثلت أولاً بمنع تهجير العائلات من الشيخ جراح، وبتوحيد ساحات الضفة الغربية والداخل المُحتل عام 1948 وقطاع غزة. مرحلة أخرى فارقة في العام 2021، تمثلت بالمقاومة الشعبية ضد إنشاء بؤرة “افيتار” الاستيطانية، شمال الضفة الغربية، ومن الشمال أيضاً بدأت تظهر ملامح مرحلة جديدة من المقاومة المسلحة في الضفة.


تصاعد المقاومة المسلحة في الضفة الغربية يمكن تتبعه في مراحل متعددة، ولكن يمكن القول أيضاً إن جولة جديدة من هذا التصاعد بدأت منذ عام 2015، مع موجة العمليات الفدائية بالسكاكين والدهس وإطلاق النار، والتي أطلق عليها البعض “انتفاضة السكاكين”. تزايد هذا التصاعد بشكل أكبر في السنوات الأخيرة، خصوصاً في عاميّ2021 و2022، نتيجة لاستمرار التوسع الاستيطاني، هدم المنازل، والاعتقالات من قبل سلطات الاحتلال.


تلك المحطات دائماً ما تزامنت مع اعتداءات على قطاع غزة المُحاصر منذ عام 2007، حيث واجهت المقاومة الفلسطينية تلك الاعتداءات بكل بسالة وراكمت إنجازات سياسية واستراتيجية وعسكرية، كما أنّ الحاضنة الشعبية للمقاومة كانت حاضرة دوماً ولها دورها الفاعل والأساسي، والذي يتجلى بمسيرات العودة في تلك المرحلة، وتحديداً في العام 2018. أمام تلك المُعطيات بدأ مفهوم وحدة الساحات بالظهور، وشيئاً فشيئاً بات يتجسد على أرض الواقع.

محاولات الاستعمار ووكلائه لتقويض المقاومة:
بدأت محاولات تقويض المقاومة قبل السابع من أكتوبر، متمثلةً بسلسلة من الاجتماعات ضمت الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية وأنظمة “عربية” منها اجتماع في النقب جنوب فلسطين المُحتلة عام 2021، واجتماع في العقبة عام في أوائل عام 2023، وآخر الاجتماعات كان خلال الإبادة الجماعية، والذي ضم رئيس أركان جيش الاحتلال الإرهابي، ومسؤولين عسكريين من الأردن، البحرين، السعودية، الإمارات، مصر.


على الرغم من نفي بعض الأنظمة العربية فيما يتعلق بالاجتماع الأخير، إلا أنّ هناك مؤشرات على التنسيق والتعاون بين الجهات المذكورة، وذلك على مستويين بارزين، أولاً: إمداد الكيان الصهيوني بالمواد الغذائية من خلال جسر بري يمتد من الإمارات والأردن وصولاً إلى فلسطين المُحتلة. ثانياً: تزويد الكيان الصهيوني بالذخائر والأسلحة من مخازن وقواعد الولايات المتحدة المنتشرة في المنطقة العربية.


ولا تقتصر محاولات تقويض المقاومة على تلك الحقائق فقط، حيث أنّه على المستويين الدولي والإقليمي توجد ضغوطات على المقاومة للرضوخ للمشاريع الاستعمارية الرامية إلى تجريد المقاومة من قدراتها وأدوات الضغط التي بحوزتها، والاستمرار في الإبادة الجماعية والتهجير القسري سواء كان ذلك في الضفة الغربية أو قطاع غزة أو الأراضي المحتلة عام 1948.
نموذج أمني أم نموذج استعماري للأمن؟


عند الحديث عن النموذج الأمريكي للأمن نجد أنه فشل في محطتين فارقتين، الأولى في العراق والثانية في سوريّا، حيث كان دور للمقاومة في كلا البلدين، وهو دور يشهد تطوراً لا سيّما في العراق. بمعنى أنّ التدخل العسكري الأمريكي المباشر في المنطقة يعود بنتائج ضد مصالح واستراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة. وبالنظر إلى النموذج الأمني في الكيان الصهيوني، الذي يستند إلى القوة العسكرية والمعلوماتية، فلقد تمّ تدميره في السابع من أكتوبر، ولولا الدعم الأمريكي – الغربي الإمبيريالي، والدعم العربي – الرجعي لربما كانت مجريات الأحداث تختلف تماماً ما بعد ذلك التاريخ.


في هذا السياق، من الضرورة بمكان ليس فقط التركيز على “نموذج أمني” جديد، أو إعادة انتاج النموذج الأمني القائم على التطبيع مع الكيان الصهيوني، من خلال ربط أمن النخب العربية الحاكمة وبقائها بــ “أمن الكيان”. بل أنّ المسألة الأهم، هي الخط التصاعدي للمقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، والوصول إلى قدرة على إعادة تشكيل الأمن بمفاهيم تحررية وممارسة ثورية تقوم على مواجهة الاحتلال.

بهاء غسان

تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *