تكرر خبر حصار ومهاجمة شمال قطاع غزة لأكثر من مرة خلال عام من الإبادة الجماعية منذ 7 أكتوبر 2023. ولكن الحصار الحالي يأتي في مرحلة متقدمة من هذه الإبادة وفي بيئة سياسية إقليمية ودولية تُشجع على استمرار الإبادة ولم يتم اتخاذ أقل الخطوات الممكنة والمطلوبة التي من شأنها وقف هذه المحرقة في قطاع غزة وإنهاء الاحتلال في كل فلسطين. عدة متغيرات يُعبر عنها هذا الهجوم الحالي على الشمال وتشمل: خطط التهجير القسري، تزايد المصالح الإمبيريالية المشتركة، فشل النظام الدولي الحالي.
خطة الجنرالات وسيناريو نكبة أخرى:
منذ بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة. برز ما يُسمى “خطة الجنرالات”، التي هدفت إلى تفريغ شمال القطاع من سكانه عبر الحصار والتجويع والقصف المستمر، باعتبار أن أي شخص يبقى في المنطقة بعد الحصار هو “مقاتل”، وبالتالي يتم استهدافه واغتياله. وتلقت هذه الخطة جُملة من الانتقادات الواسعة باعتبار أن هذه الاستراتيجية تمثل جرائم حرب. وعلى الرغم من عدم التصريح الرسمي من حكومة الاحتلال بأنها تتبنى فعلاً هذه الخطة، إلا أنّ الواقع يُفيد بعكس ذلك.
خطة الجنرالات هي استراتيجية استعمارية وضعتها عدد من القيادات العسكرية الصهيونية، وتُعزى صياغتها إلى مجموعة من الجنرالات السابقين، منهم الجنرال غيورا آيلاند وآخرون، الذين كان لهم دور أساسي في تطوير هذه الخطة الخاصة بالسيطرة على شمال قطاع غزة. وفي هذا السياق، من الضرورة بمكان الإشارة إلى أوجه الشبه الكبيرة بين خطة دالت التي نُفذت في عام 1948 وكانت أحد أسباب النكبة، وخطة الجنرالات المتعلقة بحصار شمال قطاع غزة في عام 2023-2024. كلا الخطتين تعكسان استراتيجيات تهدف إلى السيطرة على مناطق مأهولة بالفلسطينيين، مع التركيز على تهجير السكان وتوسيع الاستيطان.
بدأت الخطوات الأولى لتطبيق هذه الاستراتيجية بتاريخ 6/10/2024 وما تزال مستمرة، وأسفرت تلك الممارسات الاستعمارية والإرهابية عن استشهاد أكثر من 342 مواطن فلسطيني بالإضافة إلى آلاف الجرحى. كما تمّ توثيق تدمير كلي للمنازل وللأحياء السكنية والشوارع والطرقات والبنية التحتية وللمستشفيات والمدارس والمساجد ومراكز إيواء المُهجرين من ضمنها منشآت تابعة لوكالة الأونروا وتدميل لكل القطاعات الحيوية، وسط حصار مفروض منذ أكثر من 107 أيام على دخول المساعدات الإنسانية من الغذاء والدواء.
مصالح إمبيريالية متزايدة:
يكشف الهجوم الحالي على شمال قطاع غزة مزيداً من المصالح والأطماع الإمبيريالية المشتركة بين الكيان الصهيوني والقوى الاستعمارية، لا سيّما وأنّ خطة تهجير شمال القطاع لأنه يطل على مخزون كبير من الغاز على الساحل الفلسطيني، حيث تبلغ كمية الغاز الطبيعي الموجودة في حقل “غزة مارين” حوالي 33 مليار متر مكعب، ومن شأن هذه الكمية أن تسد احتياجات الفلسطينيين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة لمدة 25 عاماً وفي حال تم تشغيل الحقل، فإن صافي الأرباح من إنتاج الغاز وتصديره سيبلغ نحو 150 مليون دولار سنوياً.
بالنسبة للكيان الصهيوني فإنه يسعى لتنويع مصادر تزوده بالغاز الطبيعي والذي سيُعد ميزة استراتيجية لدعم استقرار إمدادات الغاز وتقليل الاعتماد على الدول الأخرى في استيراد الغاز أو الوقود. في المقابل، تتشابك مع هذه الأطماع الإمبيريالية مع إمكانية تصدير الغاز إلى أسواق قريبة مثل مصر، تركيا، أو أوروبا، وذلك عبر خطوط الأنابيب الإقليمية أو حتى تحويل الغاز إلى غاز مسال للتصدير، لا سيّما وأنّ تكاليف النقل ستكون أقل بالنظر إلى الموقع الاستراتيجي لحقول الغاز على شواطئ البحر المتوسط.
ولا تقف المصالح الإمبيريالية عند ذلك الحد، بل تشمل أيضاً إحداث تغيرات جيوسياسية حسب الخطة الموضوعة لتهجير شمال قطاع غزة. وذلك ما يصب في مصالح الكيان الصهيوني والدول المتحالفة معه، على حساب الحقوق الفلسطينية. كما أنّ ذلك من شأنه أنّ يؤدي إلى موجات أخرى من التطبيع مع الكيان الصهيوني، حيث يمكن أن يستخدم الاحتلال المكاسب الجغرافية والاستراتيجية لتحقيق صفقات جديدة مع بعض الأنظمة العربية مقابل استثمارات أو “ضمانات أمنية.” وبرعاية أمريكية دون أي شك.
فشل النظام الدولي:
إحدى القضايا البارزة التي ظهرت نتيجة تكرار العدوان الشامل على شمال القطاع، بعد أكثر من عام من الإبادة الجماعية، هي فشل النظام الدولي في حماية الفلسطينيين ومنع الإبادة في قطاع غزة. هذا الأمر يسلط الضوء على الثغرات العميقة في هيكل وآليات المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن. رغم وجود معاهدات وقوانين دولية تهدف إلى حماية المدنيين في مناطق النزاع، إلا أن الاستجابة الدولية للأحداث في غزة غير فعالة أو بالأحرى هي غائبة تماماً. النظام الدولي، الذي يعتمد على توافق القوى الكبرى، يعاني من الشلل أمام المصالح الجيوسياسية المتباينة.
علاوة على ذلك، فيما يتعلق بالمنظمات الإنسانية مثل المحكمة الجنائية الدولية لم تنجح في تقديم المسؤولين عن الجرائم ضد الفلسطينيين إلى العدالة. على الرغم من توفر الأدلة على ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم حرب، تبقى المساءلة القانونية غائبة. هذا الفشل يعكس عدم قدرة النظام القانوني الدولي على فرض القانون بشكل محايد، خاصة عندما يكون الكيان الصهيوني مدعوم من قوى عظمى.
في نهاية المطاف، يستمر الفلسطينيون في غزة في مواجهة مخاطر الإبادة الجماعية دون حماية فعالة من المجتمع الدولي. الصمت العالمي أو الاكتفاء بإصدار بيانات الشجب والإدانة مع استمرار التصعيد العسكري، يبقى الفلسطينيون في مواجهة آلة حرب متفوقة تكنولوجياً وعسكرياً، دون أفق حقيقي للتدخل الدولي الفعّال. هذا الفشل يعكس عدم توازن النظام الدولي، حيث تصبح حقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي أقل أولوية عندما تتداخل مع المصالح السياسية والاقتصادية للقوى الكبرى.
ما تبقى.. إرادة الاحتلال ليست مُطلقة:
من الجدير بالذكر والتذكير به، أن جيش الاحتلال الصهيوني لم يكف يوماً عن استهداف شمال قطاع غزة خلال أكثر من عام، وهنا يأتي دور الحديث عن محاولات التضليل الإعلامي، حيث احتلت “خطة الجنرالات” مجالاً واسعاً من النقاش والجدل في وسائل الإعلام وسط انكار رسمي من حكومة الاحتلال الصهيوني. التغطية الإعلامية بتلك الطريقة تنطوي على شيء من التضليل، فالأولوية هي الكشف عن ما يدور على أرض الواقع، والأخذ بعين الاعتبار أنّ التركيز الإعلامي على الشمال لا يعني أن باقي القطاع لا يعاني من ذات المجازر والكوارث الإنسانية ومن بينها المجاعة.
إن الوضع في شمال قطاع غزة يعكس صورة قاتمة للواقع الفلسطيني تحت الاحتلال، حيث يتعرض الشعب الفلسطيني لممارسات إرهابية تستند إلى استراتيجيات استعمارية تسعى إلى تهجير السكان واستغلال الموارد الطبيعية ضمن إطار من التحالفات الإمبيريالية – الرجعية. ومع تواصل العدوان والإبادة، يظهر الفشل الدولي في تحقيق العدالة وحماية المدنيين، مما يعكس عجز النظام الدولي عن كبح جماح القوى المسيطرة. ومحاسبة الاحتلال على جرائمه.
أمام هذا الواقع، من الضرورة بمكان استمرار حملات التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية والعمل من أجل وقف الإبادة الجماعية وإنهاء الاحتلال الصهيوني ومحاسبته على الجرائم التي ارتكبها بحق الفلسطينيين. إن تضافر الجهود العالمية عبر حشد الدعم الشعبي والسياسي يمكن أن يسهم في تغيير ميزان القوى وتحقيق العدالة. يجب على المجتمع الدولي أن يتبنى موقفاً حازماً تجاه الجرائم المستمرة.
بهاء غسان