عُقدت “قمة الرياض” يوم 11 نوفمبر 2024 بمشاركة قادة العالمين العربي والإسلامي لمناقشة الأوضاع في غزة ولبنان، وإبداء موقف موحد تجاه الاعتداءات الصهيونية في ظل استمرار الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، بينما تتم محاولة الترويج للقاء بوصفه خطوة هامة على الصعيد السياسي، إلا أن هناك انتقادات عدة حول مجريات وتفاصيل اللقاء، من اللغة المستخدمة، إلى عدم تفعيل الموارد المتاحة، وصولاً إلى مخرجات اللقاء التي تبدو غير ملزمة وغير فاعلة.
اللغة الأغنى والتصريحات الأغبى
على الرغم من غنى اللغة العربية وضرورة توخي الدقة في اختيار المصطلحات لتحليل ما يحدث، استخدم ما يُسمى بوزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، مصطلحات مثل “نزاع” و”عنف” و”توتر” عند الإشارة إلى الإبادة الجماعية، وهي مصطلحات تتسم بالتحفظ. إن وصف الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية كنزاع ينطوي على تقليل من حقيقته التاريخية والقانونية كحالة استعمار استيطاني، وليس مجرد نزاع أو صراع بين طرفين متكافئين. في الواقع، لا يمكن اعتبار ما يحدث في فلسطين نزاعاً ؛ فالكيان الصهيوني قوة محتلة وتُمارس السيطرة العسكرية على أراض فلسطين التاريخية، وتعمل على طرد سكانها وفرض سياسات تهجير قسري، وهذه الممارسات تُعدّ، بموجب القانون الدولي والتجارب التاريخية، ممارسات استعمارية عنصرية.
إن هذا الاستخدام اللغوي للمصطلحات يقلل من واقع الأوضاع ويضع الطرفين في مكانة متساوية، رغم أن هناك قوة محتلة وشعباً خاضعاً للاحتلال، وهو ما يعزز الحياد المصطنع فيه في معالجة الكارثة الإنسانية والسياسية التي تعيشها فلسطين. هذا الأسلوب في تناول القضية يفتقر إلى الإرادة السياسية ويعزز من التغطية على جرائم الاحتلال، بل ويفتح المجال للتلاعب بملامح القضية أمام الرأي العام العالمي، ويحول الأنظار عن الطبيعة الاستعمارية للاحتلال الصهيوني.
اللجوء للأمم المتحدة وتجاهل الموارد الذاتية
من ضمن القرارات الصادرة عن القمة، دعوة الأمم المتحدة إلى اتخاذ قرارات وإجراءات عقابية ضد الكيان الصهيوني، بما في ذلك تجميد عضويتها، وتحقيق المحكمة الجنائية الدولية في الانتهاكات، ومع أهمية هذه الخطوات وضرورتها، إلا أن الاعتماد الكلي على الأمم المتحدة يعكس نهجاً دبلوماسياً يشبه طريقة المنظمات الأهلية أو الجمعيات غير الحكومية، وليس نهج قادة دول. في الأزمات والقضايا الكبرى، ينبغي أن تتخذ الدول إجراءات عملية وسياسات دعم ملموسة على الأرض، خاصة أن الدول المشاركة تمتلك الموارد الكافية والمواقع الجيوسياسية التي تؤهلها للتأثير فعلياً على الوضع في فلسطين.
إن إغفال تفعيل الموارد الذاتية واستغلال الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية المتاحة للدول المشاركة يمكن قراءته كهروب من تحمل المسؤولية، وكأنه نوع من وضع الحدود للذات، مما يثير تساؤلات حول جدية هذه الدول في مواجهة الكارثة التي تواجهها فلسطين. فعلى سبيل المثال، كانت هناك خيارات اقتصادية ودبلوماسية، مثل فرض عقوبات اقتصادية من الدول العربية والإسلامية على الكيان الصهيوني أو حتى قطع العلاقات، كوسائل ضغط فعّالة يمكن أن تجبر الاحتلال على وقف الإبادة الجماعية.
مخرجات اللقاء… والهروب من المسؤولية
إن المخرجات النهائية لقمة الرياض ركزت على لغة الإدانة والتنديد، بينما لم تتضمن آليات واضحة وملزمة للتطبيق. لم تقدم القمة خطة عمل محددة تستند إلى خطوات عملية أو جداول زمنية محددة، بل اعتمدت على بيانات عامة، وهذا يعزز من مشاعر الإحباط لدى الشارع العربي والإسلامي، الذي ينتظر من قادته وقفة حقيقية ودعماً ملموساً. هذه المخرجات التي تفتقر إلى الإجراءات الفعّالة تعكس عدم جدية الدول في اتخاذ مواقف قوية، وتعيد إلى الأذهان القمم السابقة التي كانت تعقد للتنديد دون أن تسفر عن أي تغيير حقيقي على أرض الواقع.
فعلى سبيل المثال، لماذا لم تتناول القمة إمكانية تعليق التعاون العسكري والأمني مع الدول الداعمة للكيان الصهيوني؟ ولماذا لم يتم توضيح خطوات تشكيل لجنة لمراقبة تنفيذ أي قرارات فعلية على أرض الواقع؟ ولعل السؤال الأكثر إلحاحاً هو لماذا لم تقم بعض الدول المُشاركة والمُطبعة بأخذ زمام المبادرة لقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني ووقف كل أشكال التطبيع ومحاولات شرعنة الاحتلال الصهيوني؟
الزمن العربي الرديئ ما يزال واقعاً…
لا يزال الزمن العربي الرديء يفرض نفسه كواقع مرير… وبالنظر إلى ما سبق، يتضح أن هذا الاجتماع لا يمكن وصفه ب”القمة”، بل هو في الحقيقة يمثل القاع العربي – الإسلامي. عجز هائل، رغم وفرة الموارد والإمكانات، عن إيقاف الإبادة الجماعية في فلسطين. لكن هذا العجز لم يكن اضطراراً أو خارجاً عن الإرادة، بل إن بعض الدول المشاركة اختارت بمحض إرادتها أن تقف عاجزة، متواطئة، ومتخاذلة، بما يتوافق مع مصالح نخبها الحاكمة الرجعية، التي ما زالت تتاجر بالقضية الفلسطينية على حساب تضحيات الشعب الفلسطيني.
إن هذا المشهد المأساوي يعكس بوضوح الفجوة العميقة بين الشعوب العربية وحكامها. ففي حين تطمح الشعوب إلى دعم صمود الفلسطينيين ونضالهم المشروع، تجد الحكومات نفسها مُكبلة بمصالحها الخاصة وتحالفاتها الدولية، مما يحول دون اتخاذها موقفاً حازماً حيال الجرائم المستمرة بحق الشعب الفلسطيني. وتجسد هذه المواقف المتخاذلة أزمة أعمق تتعلق بأولويات هذه الأنظمة التي باتت تعتبر القضايا القومية والتحررية مجرد أوراق سياسية، تُستخدم حسب مقتضيات الظروف ومصالحها الذاتية.
بهاء غسان