في تطور جديد على المستوى القانوني المتعلق بالقضية الفلسطينية والإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني في غزة، قبلت المحكمة الجنائية الدولية طلب المدعي العام، كريم خان، -المُعلن عنه في شهر مايو/أيار 2023- ، بإصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، ووزير الحرب المًقال يوآف غالانت. وتأتي هذه الخطوة استجابة لاتهامات بارتكاب جرائم حرب ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، بما في ذلك تجويع شعب بأكمله ومنعه من الوصول إلى مقومات حياته الأساسية وارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

مواقف مؤيدة للقرار لبعض الدول والمنظمات:

يُلزم النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدول الأعضاء، البالغ عددها 124 دولة، باعتقال وتسليم أي فرد صدرت بحقه مذكرة اعتقال إذا دخل أراضيها. لكن المحكمة لا تملك وسائل تنفيذية خاصة بها، مثل قوات شرطة، ما يجعل تنفيذ هذه المذكرات يعتمد على تعاون الدول الأعضاء. وفي حالة امتناع دولة عضو عن تنفيذ أمر الاعتقال، تواجه عقوبات دبلوماسية محدودة، مثل إحالتها إلى جمعية الدول الأطراف في المحكمة أو في النهاية إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ومع ذلك، تظل فعالية هذه العقوبات محدودة.

ومن المواقف التي أبدت تجاوباً مع هذا القرار، فلقد تمثلت بتصريحات رسمية من دول ومنظمات دولية حكومية ومنها: هولندا،

كانت أولى الدول التي عبرت عن موقفها على لسان وزير الخارجية الهولندي كاسبر فيلدكامب أن بلاده مستعدة لتنفيذ أمر المحكمة في حق نتنياهو وغالانت. إيرلندا وكندا، وقد أبديتا استعداداً للالتزام بالحُكم الصادر. بلجيكا، حيث أفادت نائبة رئيس الوزراء بأن بلجيكا تؤيد مذكرة الاعتقال الصادرة من الجنائية الدولية بحق نتنياهو وغالانت، ودعت الاتحاد الأوروبي إلى الامتثال لمذكرتي الاعتقال، بالإضافة للدعوة  إلى فرض عقوبات اقتصادية، وتعليق اتفاقية “الشراكة مع إسرائيل”.

من جانبه أكد الاتحاد الأوروبي على لسان الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمني، بأن أمر المحكمة ليس سياسياً مؤكداً على وجوب احترامه وتنفيذه من قبل جميع الدول والفواعل الآخرين في المحكمة. وفيما يتعلق بالأمم المتحدة فلقد ورد التعليق الأبرز على لسان المقررة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة فرانشيسكا ألبانيز، حيث دعت الدول الأعضاء في ميثاق روما أن تحترم وتنفذ قرارات المحكمة، مؤكدة على ضرورة احترام استقلالية المحكمة الجنائية ودعم عملها من أجل المحاسبة. وفي ذات السياق، مذكرات أعلنت منظمة هيومن رايتس ووتش، بأن المحكمة الجنائية الدولية تفند التصور بوجود أشخاص فوق القانون، وأن مذكرات المحكمة الجنائية الدولية مهمة بالنظر لمحاولات عرقلة مسار العدالة فيها.

مواقف مُبهمة وغير واضحة:

جاء الموقف الفرنسي غامضًا، حيث صرّح متحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية أن رد باريس على قرار المحكمة سيأتي متسقًا مع مبادئها، مشيرًا إلى أن المحكمة تُعدّ ضمانة للاستقرار الدولي، ويتعين حماية استقلاليتها في العمل. ومع ذلك، رفض المتحدث التعليق على احتمال اعتقال نتنياهو في حال وصوله إلى فرنسا، واصفًا الأمر بأنه “مسألة قانونية معقدة” وممتنعًا عن الإدلاء بمزيد من التصريحات بشأنها. وفي ذات السياق، اكتفى المتحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني بالتصريح بأن بريطانيا تحترم استقلال المحكمة الجنائية الدولية.

ومن المواقف غير الواضحة أيضاً، تمثلت بموقفي السويد والنرويج التي جاءت تصريحاتها الرسمية مؤكدة على احترام المحكمة الجنائية الدولية، وليس القرار بحد ذاته، الذي رأت فيه الحكومة السويدية بأنه يقع ضمن نطاق اختصاص السلطات القضائية السويدية دون إبداء نيتها تنفيذ الحُكم صراحةً. أكدت الحكومة الإيطالية على التزامها بدعم المحكمة الدولية، مشددة على أهمية أن تلتزم المحكمة بدورها القانوني بعيدًا عن الأبعاد السياسية. موقف إيطاليا بدوره يندرح تحت خانو الغموض والرفض في آن، حيث وأوضح وزير الدفاع الإيطالي، غويدو كروسيتو، أن بلاده قد تجد نفسها مضطرة لتنفيذ القرار وتوقيف رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو إذا زار إيطاليا، رغم اعتقاده بأن المحكمة قد ارتكبت خطأ في هذا السياق. في حين  أشار مسؤولون إيطاليون إلى أن التنسيق مع الحلفاء جارٍ لدراسة القرار بعناية، “بهدف صياغة موقف مشترك ومتوازن يأخذ في الاعتبار التعقيدات القانونية والدبلوماسية المحيطة بالقضية.”

أمريكا وآخرون: مواقف متواطئة

تزامن إصدار هذه المذكرات مع استخدام الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) –قبل بيوم-  في مجلس الأمن لإجهاض قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة ومنع المجاعة والإبادة. ورغم تأييد جميع أعضاء المجلس الآخرين لهذا القرار الذي يتماشى مع متطلبات القانون الدولي، جاءت الخطوة الأميركية لتعكس انحيازًا واضحًا للكيان الصهيوني. إضافة إلى ذلك، رفض الكونغرس الأميركي مشروع قانون يحظر تصدير السلاح إلى الكيان المُحتل، بسبب انتهاكاتها للقانون الدولي وحقوق الإنسان، وهو ما يُعدّ خرقًا حتى للقانون الأميركي نفسه الذي يمنع تقديم المساعدات لمنتهكي حقوق الإنسان.

إضافةً إلى ذلك قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي:  “إن الولايات المتحدة ترفض بشكل جوهري قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت، مضيفاً أن الولايات المتحدة ستناقش الخطوات التالية مع شركاء مثل إسرائيل.” وذلك وسط تهديدات طالت المحكمة وهيئة الأمم المتحدة أيضاً، على لسان مسؤولين قد يشغلون مناصب حكومية في إدارة ترامب المُقبلة.

الرفض الأمريكي لقرار المحكمة الجنائية الدولية بشأن أوامر الاعتقال ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين يُعتبر بمثابة تشجيع على ارتكاب جرائم الحرب والإبادة الجماعية. من خلال دعمها المستمر للاحتلال، بما في ذلك تزويدها بالأسلحة المتطورة، حيث تُشارك الولايات المتحدة بشكل مباشر في الاعتداءات العسكرية التي تُسفر عن عديد من الجرائم والمجازر بحق الشعب الفلسطيني. هذا الموقف يساهم في تقويض العدالة الدولية ويمنح الاحتلال الضوء الأخضر للاستمرار في  الإبادة الجماعية. وفي هذ السياق جاءت تصريحات حكومتي المجر والأرجنتيني متوافقة مع الموقف الأمريكي، فيما يتعلق بالامتناع عن الامتثال للحُكم الصادر.

أبعاد الأحكام الصادرة وتداعياتها

إصدار مذكرات الاعتقال هذه يُعدّ خطوة غير مسبوقة، حيث يضع قيادات سياسية وعسكرية إسرائيلية تحت “المُحاسبة الدولية”. كما يفتح الباب لمزيد من الضغوط على سلطات الاحتلال، خاصة في ظل الانتقادات المتزايدة بسبب ارتكابها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. في المقابل، تواجه المحكمة تحديات كبيرة في ضمان تنفيذ هذه الأوامر، خاصة أن دول الكبرى مثل الولايات المتحدة ليست أطرافًا في نظام روما الأساسي، ما يُضعف من قدرتها على فرض العدالة الدولية بشكل كامل. هذا عدا عن عدم امتثال دول موقعة على الميثاق بالحُكم الصادر.

في المقابل، إن هذه الأحكام لا بُد وأن يتم البناء عليها على عدة مستويات، فعلى المستوى السياسي تؤكد هذه الأحكام زيف رواية الاحتلال بوجود كيانه كــــ “دولة ديمقراطية”، بل إنه كيان مُحتل يمارس كافة أشكال الجرائم التي يحرمها القانون الدولي، وعلى المستوى القانوني تفتح هذه الخطوة المجال أمام مُحاسبة أفراد آخرين ضالعين بجريمة الإبادة الجماعية في فلسطين، سواء كانوا مسؤولين أو جنود من جيش الاحتلال، لا سيّما في ظل وجود العديد من الأدلة التي توثق جرائمهم. وعلى المستويين الأكاديمي والاقتصادي، من الضرورة بمكان البناء على هذه الخطوة للتشجيع على مُقاطعة الكيان الصهيوني وفرض العقوبات عليه.

تتجلى أمور أخرى ملحّة ومرتبطة بهذه الأحكام في ضرورة تصعيد الحملات المطالبة بوقف تصدير الأسلحة والذخائر إلى سلطات الاحتلال، إلى جانب تكثيف الجهود للضغط من أجل إدخال المساعدات الإنسانية بشكل فوري وعاجل إلى قطاع غزة. وعلى الرغم من أن هذا الحكم يندرج ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بشكل منفصل عن الدعوى المرفوعة ضد الاحتلال في محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في فلسطين، إلا أنه يمكن استثماره لدعم الدعوى التي تقدمت بها دولة جنوب إفريقيا، بما يعزز الضغط على الاحتلال لوقف الانتهاكات والجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني.

أسرة التحرير

تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *