تشهد سوريا اليوم تحولات جذرية تمثل فرصة فريدة لإعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس حديثة وشاملة. هذه التحولات، رغم تحدياتها، تفرض على جميع الأطراف المعنية التفكير بعمق في شكل سوريا المستقبل، حيث لا مكان للتهميش أو الإقصاء. إن بناء مجتمع ليبرالي تقدمي هو الخيار الأمثل لضمان استقرار سوريا وازدهارها. فالمجتمع الليبرالي يقوم على قيم الحرية والمساواة والعدالة، وهو يتيح الفرصة لجميع فئات المجتمع، بغض النظر عن اختلافاتهم الإثنية أو الدينية أو الفكرية، للمشاركة في صياغة مستقبل وطنهم. هذا النهج يعزز الوحدة الوطنية ويضع أسسًا قوية للتنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
من المهم التأكيد على أن التنوع الثقافي الذي يميز سوريا ليس أمراً مستجداً، بل هو جزء أصيل من هويتها. لذلك، يجب تجنب الوقوع في فخ الخطاب الطائفي الذي قد يُستخدم كذريعة لتقسيم البلاد، سواء جغرافياً أو من خلال نظام المحاصصة السياسية. مثل هذا النهج سيخلق بيئة مواتية للاحتلال لتمكين وجوده وتعزيزه. وعندما تُقسم المنطقة على أسس طائفية أو إثنية – كالسني، والشيعي، والكردي، والدرزي – يصبح المجال مفتوحاً أمام الكيان الصهيوني لتقديم نفسه كدولة يهودية في منطقة تُعرف بطوائفها وإثنياتها، بدلاً من أن تكون موحدة حول مفاهيم تقدمية وتحررية تعزز وحدة الشعوب وحقوقها وتواجه المشاريع الاستعمارية لا سيّما وأن سوريا تتعرض لعدوان صهيوني مُستمر أسفر عن احتلال أراضي جديدة وكامل جبل الشيخ.
من الضروري أن ترتكز سوريا المستقبل على مفهوم المواطنة، حيث يكون الانتماء للوطن هو الأساس، وليس لأي هوية دينية أو إثنية. في هذا السياق، يجب أن يتم تمكين الجميع من المشاركة في عملية صنع القرار دون تمييز، مع تعزيز سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان. لكن مع هذه الفرصة تأتي تحديات كبيرة، أبرزها خطر الانجرار إلى الحكم القائم على خلفيات أيديولوجية متدينة. فالتجارب التاريخية في المنطقة أثبتت أن الحكم القائم على الإقصاء الأيديولوجي أو الديني يؤدي إلى الانقسامات والصراعات الداخلية. لذلك، من الضروري العمل على تعزيز دولة مدنية تُبنى على القيم الإنسانية العالمية، وليس على أسس عقائدية أو طائفية.
إن سوريا الليبرالية التقدمية لن تكون مجرد رؤية سياسية، بل هي إطار عملي لتحقيق التعايش والسلام المستدام. من خلال احتضان التنوع والعمل على تمكين كل فرد في المجتمع، يمكن لسوريا أن تصبح نموذجًا للنهضة في منطقة لطالما عانت من الاضطرابات. في الختام، لا شك أن تحقيق هذه الرؤية يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وتعاونًا داخليًا ودوليًا بعيدا عن لغة المصالح وصراع الاقليم. فسوريا المستقبل تحتاج إلى جيل جديد من القيادات الفكرية والسياسية، قادر على تجاوز الماضي، ومؤمن بقدرة الشعب السوري على بناء وطن يحتضن الجميع دون استثناء.
هيئة تحرير موقع جمهورية فلسطين