مقدمة

صياغة دستور جديد في سوريا بعد سقوط النظام يُعدّ خطوة مصيرية ترسم معالم المستقبل. فهو ليس مجرد وثيقة قانونية تنظم السلطات، بل عقد اجتماعي يعكس رؤية المجتمع لهويته، علاقته بالدين، شكل الدولة، وضمان الحقوق للجميع. في ظل تعددية عرقية ودينية وصراع إقليمي ودولي، تبرز أسئلة ملحّة: “من نحن؟” و”ما الدولة التي نريدها؟”. الإجابة عنها تتطلب مشاركة كل القوى السياسية، بما في ذلك المجتمع المدني، لضمان انتقال سلمي وشامل.

أهمية الدستور بعد الثورات

الدستور يُعد حجر الأساس لأي دولة حديثة، خاصة بعد ثورات كبرى تُحدث تغييرات جذرية. في العالم العربي، قدّمت ثورات الربيع العربي دروسًا مهمة حول معضلات صياغة الدساتير. من بين هذه المعضلات، تحديد دور الدين في الدولة، شكل النظام السياسي، وضمان الحريات.

التجربة التونسية: نجحت تونس في صياغة دستور يعكس تعددية المجتمع بفضل الحوار الوطني وإشراك القوى كافة.

التجربة المصرية: اصطدمت الأحلام الثورية بأسئلة الهوية ودور القوى الإسلامية.

الوضع السوري: أكثر تعقيدًا، نظرًا للتعددية الطائفية والعرقية، وتداخلات المصالح الإقليمية والدولية.

صراع الهوية في سوريا

أخذت الثورة السورية طابعًا مختلفًا عن الثورات العربية الأخرى. بينما وحّدت شعارات “الحرية” و”الكرامة” طيفًا واسعًا من السوريين، فإن ترجمتها إلى واقع عملي تواجه تحديات كبيرة.

1.            التعددية الطائفية والعرقية: سوريا ليست مجتمعًا متجانسًا، ما يجعل أي دستور جديد بحاجة إلى الاعتراف بتنوع الهويات وضمان حقوق جميع المكونات.

2.            تحالفات الثورة: بروز قوى ذات هويات دينية وسياسية واضحة يجعل من الصعب بناء توافق شامل حول هوية وطنية واحدة.

3.            سؤال الهوية: كيف يمكن صياغة دستور يعكس الهوية السورية، ويضمن حقوق الجميع دون فرض هوية معينة على الآخرين؟

الدين والدولة: المعضلة الأساسية

السؤال المحوري الذي سيواجهه السوريون عند صياغة الدستور هو: كيف تُعرّف علاقة الدين بالدولة؟

1.            دور الإسلام في التشريع: هل يكون الإسلام المصدر الوحيد للتشريع أم أحد المصادر؟

2.            حقوق الأقليات: كيف يمكن ضمان حقوق غير المسلمين ضمن دولة تحترم الجميع؟

3.            طبيعة الدولة: هل ستكون دولة مدنية قائمة على المواطنة أم دولة ذات هوية دينية؟

تجارب الربيع العربي تُظهر صعوبة التوفيق بين التيارات الإسلامية والعلمانية: على سبيل المثال تجربة تونس أظهرت صعوبة التوفيق بين تيارات علمانية وإسلامية حول علاقة الدين بالدولة. ساهم الحوار في تجاوز الخلافات، لكن الأمر لم يكن سهلًا.

في مصر، اصطدمت الأحلام الثورية بأسئلة الهوية الوطنية ودور القوى الإسلامية في السلطة. أدت الانقسامات إلى تعطيل العملية الانتقالية.

بالنسبة لسوريا، سيكون التحدي أكبر بسبب التنوع الديني والعرقي تجعل القضية أكثر حساسية. القوى الإسلامية، التي لعبت دورًا بارزًا في الثورة، تواجه اختبارًا صعبًا: هل ستكون مستعدة لتقديم رؤية تقر بتعددية سوريا؟ أم ستُصر على صيغة أحادية تعتمد على تفسيرها الخاص للإسلام؟ عليها أن تُظهر استعدادًا لقبول التعددية وتقديم رؤية شاملة.

القوى الديمقراطية والتقدمية: تحديات وفرص

رغم أهمية القوى الديمقراطية والتقدمية في المشهد السوري، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة:

1.            ضعف التنظيم: تفتقر هذه القوى إلى بنية قوية مقارنة بالقوى الإسلامية أو القومية.

2.            قلة الدعم الإقليمي والدولي: بينما تحظى القوى الإسلامية بدعم واضح، تفتقر القوى الديمقراطية إلى ذلك.

3.            الاستقطاب السياسي: الانقسامات الداخلية تُضعف تأثيرها.

4.            التأثير المحلي المحدود: النزاع المسلح جعلها بعيدة عن قواعدها الشعبية

ورغم ذلك، تمتلك هذه القوى رؤية واضحة لدولة:

مدنية تعددية: تضمن حقوق الجميع دون إقصاء.

قائمة على المواطنة: حيث القانون فوق الجميع.

تحمي الأقليات: من خلال ضمان حقوق المرأة، الأكراد، المسيحيين، والمجموعات المهمشة.

دور المجتمع المدني في صياغة الدستور.

إلى جانب القوى السياسية، يلعب المجتمع المدني دورًا حيويًا في صياغة الدستور وترسيخ قيم الديمقراطية:

1.            تعزيز الحوار: كجسر بين القوى السياسية والمواطنين، لضمان أن تعكس العملية الدستورية تطلعات الشعب.

2.            الرقابة: لضمان الشفافية ومنع تهميش أي فئة.

3.            التثقيف الديمقراطي: لتعزيز قيم المواطنة والمساواة.

4.            حماية الأقليات: لضمان أن حقوقهم مصونة في المستقبل.

التحديات الإقليمية والدولية

دور القوى الإقليمية والدولية عامل مؤثر في صياغة دستور سوريا:

القوى الإقليمية: تركيا، إيران، ودول الخليج لها أجندات متعارضة تؤثر على شكل الدولة السورية.

المجتمع الدولي: الأمم المتحدة، روسيا، والولايات المتحدة ستسعى لضمان توافق الدستور مع مصالحها.

أمثلة مقارنة لدساتير ما بعد الصراع

1.            جنوب إفريقيا: قدّمت نموذجًا للتصالح بعد عقود من الفصل العنصري، عبر صياغة دستور يعكس تعددية المجتمع.

2.            البوسنة والهرسك: وضعت اتفاقية دايتون إطارًا دستوريًا يوازن بين المكونات العرقية، رغم استمرار التحديات.

ما المطلوب لإنجاح الدستور السوري؟ لضمان نجاح العملية الدستورية، هناك خطوات أساسية:

1.            حوار وطني شامل: يضم كافة المكونات والطوائف.

2.            التأكيد على المواطنة المتساوية: كركيزة أساسية للدولة.

3.            ضمان الحريات الأساسية: مثل حرية التعبير والعقيدة.

4.            الاستفادة من التجارب الإقليمية والدولية: مثل تونس وجنوب إفريقيا.

5.            آليات العدالة الانتقالية: لضمان المحاسبة على جرائم الحرب وتعويض الضحايا.

خاتمة

إن صياغة دستور جديد لسوريا هي فرصة تاريخية لرسم معالم دولة مدنية قائمة على التعددية والمساواة. نجاح هذه العملية يعتمد على قدرة القوى السياسية والمدنية على العمل معًا، ووضع مصلحة الشعب فوق المصالح الضيقة. إذا نجحت سوريا في صياغة عقد اجتماعي جديد، يمكنها تجاوز مآسي الحرب والانقسام، وبناء مستقبل أكثر عدالة واستقرارًا.

في هذا المقال استند الكاتب للعديد من المراجع البحثية والأكاديمية التي شكلت بنية المقال . صيغت بعد الربيع العربي وتحديات الانتقال الديمقراطي، يمكنك الاستفادة من هذه المصادر:

1.            دور منظمات المجتمع المدني في الانتقال الديمقراطي في تونس: يتناول الفصل الثالث من كتاب The ‘Fall’ of the Arab Spring دور المجتمع المدني في ضمان شمولية عملية صياغة الدستور في تونس، مما أدى إلى انتقال ديمقراطي ناجح. يشير إلى أهمية المشاركة العامة، الشفافية، وبناء الثقة بين النخب السياسية والمواطنين في هذه العملية【16】【17】.

2.            مقارنة بين حالات تونس، مصر واليمن بعد الربيع العربي: دراسة أكاديمية نشرت عبر CORE تسلط الضوء على العوامل التي ساهمت في نجاح تونس وفشل دول أخرى. تشمل التحليل دور القيادات السياسية والمؤسسات الديمقراطية ومدى تأثيرها على استقرار الدولة【16】.

3.            التحولات الدستورية والديمقراطية في العالم العربي: كتاب Beyond the Arab Spring يناقش التحولات السياسية والدستورية في الدول العربية بعد الربيع العربي، مع تحليل تأثير القوى الإقليمية والمحلية على النتائج الديمقراطية لكل دولة【16】.

4.            تحديات صياغة الدساتير في بيئة ما بعد الصراع: مقال نشرته Cambridge University Press يدرس تحديات تحقيق ديمقراطية شاملة عبر الإصلاح الدستوري مع مقارنة بين نجاحات وإخفاقات الدول العربية الأخرى【17】.

5.            جون لوثي، Making Constitutions in Deeply Divided Societies:

يناقش الكتاب تحديات كتابة الدساتير في المجتمعات المتعددة العرقية والطائفية.

6.            برنارد لويس، The Crisis of Islam:

يسلط الضوء على دور الإسلام في السياسة والعلاقة بين الدين والدولة في المجتمعات الإسلامية.

7.            ياسين الحاج صالح، الثورة المستحيلة: يقدم تحليلًا معمقًا حول تعقيدات الثورة السورية وآفاقها المستقبلية.

المقالات والدراسات الأكاديمية

1. “Religion and Politics in Post-Revolutionary Syria”

دراسة في مجلة Journal of Contemporary Arab Studies، تركز على دور القوى الإسلامية في تشكيل الدولة.

2. “Transitional Justice and Constitution Making in Divided Societies”

دراسة منشورة في مجلة Global Constitutionalism، تبحث في دور العدالة الانتقالية في صياغة الدساتير.

 

د. طارق معمر/ رئيس تحرير موقع جمهورية فلسطين

تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *