بقيت زاوية فارغة في ركن الجمهورية، تُسمى برائحة البلاد، ومنذ عام وأكثر لا تفوح إلا رائحة الموت والبارود، وروائح أخرى أكثر كراهية، مثل الخيانة والتخاذل والتواطئ. أنظر لتلك الزاوية كما لو أنها أصبحت جزءاً من بيت، من حيّ، من مخيم، لكنها فارغة بفعل “التشاؤل” الذي لطالما حمله سعيد أبي النحس. منذ البداية هو مزيج من الإحباط والأمل، ولكن الزاوية كانت ما تزال فارغة، حتى أتت الروح، وروح الروح وما بعد الروح…
لا معنى لتلك الزاوية بأن تبقى فارغة، فكثيرة هي المشاهد والحكايا والأحلام التي اغتيلت على رمال غزة، ليست حكايا مُجردة، بل هي دروس للإنسانية. الجد خالد نبهان يقف شامخاً ويعطي درساً في جدلية الروح والجسد والوجود والعدم والموت والحياة. والروح ذلك السر الأبدي، جوهر الحياة، أمل الخلود..
عندما خلدت ريم إلى نومها الأخير في عالم موحش، واستيقظت لربما في عالم آخر، تثور فيه على المُعتدي. كان درساً صعباً أن نتذكر مرةً أخرى أنّ تلك الروح ترسم حدود الوطن، يضيق مجازاً ليكون “مساحة صغيرة للغاية حدودها كتفين” كا قال الشهيد غسان كنفاني، أو يتسع ليتخطى أمواج البحر الذي بات ملجئاً للمُهجرين.
وعلى عكس كل الملاجئ في عالم قبيح، فهي مساحة كبيرة من اللا أمان، فراغ جغرافي بنظر الغُزاة، ومجالاً من الصمود والتجذر بنظر أصحاب الأرض. هو درس آخر في الوجود والعدم، وربما أرادت ريم أنّ تقول من عالمها الجديد: “أي وجود ذلك؟ هل نحن الأموات فعلاً؟ هل بفناء هذا الجسد الصغير نحيا أموات؟ أم أنّ الموت قد مس جزء فارغاً، زاويةً أخرى أكبر، زاويةً خاوية تُسمى بالضمير…” والحديث عن الضمير ليس من باب الابتذال، بل من نافذة السؤال الضروري، هل الضمير هو ذلك ما يصحو على مجزرة كل يوم، وحرق خيام المُهجرين وإحصاء المرات التي هزت فيها الرياح تلك الخيام حتى اقتلاعها؟!
تقتلع الريح الخيام، وينشر الغُزاة من صهيون البارود كالملح، لكن ما من أمل لهم باقتلاع شعب من أرضه. قبل عامين من تاريخ الإبادة، وجدوا “عناة” في خان يونس كاملةً الملامح، آلهة الحب والجمال والحرب، تلك المنتصرة السعيدة، رُبما كانت شهيدة في يوم من الأيام، رُبما كانت ريم أخرى قبل 4000 آلاف عام وأكثر. لم يغير الغُزاة ملامحها، ولن تغير أساطير المُحتل حكايتها. لسنا في زمن السعادة، ولكن الأمل ما يزال يأتي في ريح كل ليلة، وقد تأتي ذات مرة بصورة المُنتصرة.
رحل الجد نبهان ورحلت ريم في زمن الحرب،و بعد درس روح الروح، ولكنه لم يتوقف أبداً عن حكمته، وأدى بشرف درس ما بعد الروح، ليقول لنا أنّ في مكة حجر أسود يدور حوله مليارات من البشر، ويلتهم “أميرها” مليارات الدولارات، دون أن يقدرو على دق وتد في خيمة! وعلمنا أنّ “حضارة الجمهوري والديمقراطي” تقوم على رائحة البارود والدم، وأنّها أبداً ليست تلك رائحة البلاد، وإنما رائحة الغُزاة التي دنست البلاد.. أي درس هذا في المُدنس والمُقدس، في الفناء والبقاء.
تعطينا ريم، وجدها وصايا مُقدسة، تقول بأن رائحة الدمار ونزع الإنسانية والحريق والتعذيب والاغتيال وقتل الأطفال ومسح المُدن والمدنية والإرهاب والأسر والسجون والبارود والدم والتجويع، هي رائحة الغزاة، الاستعمار ومجرمي الحرب، رائحة الصهيونية… وما بين الروح والريح وما بعد الروح يوجد ذلك السرمدي الذي لا يفني، والذي دائماً ما يتجدد، آملاً بوطن بلا غُزاة ولا مُحتلين…
بهاء غسان