برز شعار “اليوم التالي للحرب” منذ اللحظات الأولى لجريمة الإبادة الجماعية التي يتركبها الكيان الصهيوني في قطاع غزة، محاولاً الانتقال من كونه مجرد شعار تعبوي إلى استراتيجية تهدف إلى إقصاء المقاومة الفلسطينية عن أي دور سياسي أو إداري في مرحلة “ما بعد الحرب”. إلا أن المقاومة الفلسطينية، برسمها مشاهد القوة والتحدي، قلبت المعادلة وحاولت إعادة تعريف “اليوم التالي” بشروطها. فقد برزت مظاهر التحدي في غزة، لا سيما أثناء عملية تسليم الأسرى الصهاينة. مشاهد “اليوم التالي” تلك لم تنحصر في غزة، صحيح أنّه قد يكون بدء التأريخ لذلك اليوم صبيحة التاسع عشر من كانون الثاني، إلا أنّ اليوم التالي في غزة كان مكانه في جنين.
جرائم لا تتوقف ولا تسقط بالتقادم
على الرغم من دخول الاتفاق حيز التنفيذ، إلا أن جيش الاحتلال واصل ارتكاب الجرائم في قطاع غزة، حيث وثّقت التقارير الرسمية اغتيال عشرات المواطنين الفلسطينيين في أنحاء مختلفة من القطاع. كما عمد جيش الاحتلال إلى ترك مخلفات خطيرة، مثل المتفجرات والبيوت المفخخة، ما أدى إلى وقوع مزيد من الضحايا بين المدنيين. ولم تقتصر الانتهاكات على القتل المباشر، بل سبقها تدميراً ممنهجاً للمنظومتين الصحية والتعليمية، بهدف شلّ الحياة اليومية واستمرار الإبادة بأساليب غير مباشرة حتى بعد تطبيق الاتفاق. هذه الانتهاكات تعكس بوضوح الفكر العدائي والممارسات غير الإنسانية التي يتبعها جيش الاحتلال ويعبر بها عن طبيعة الصهيونية.
تزامنت تلك الأحداث مع عدوان واسع شنّه جيش الاحتلال على مدينة ومخيم جنين شمال الضفة الغربية، تمثل في توغل بري في المخيم واستخدام الطيران والمُسيرات المفخخة والقذائف الموجهة. كما أدى هذا العدوان إلى هدم العديد من المنازل وتهجير آلاف اللاجئين الفلسطينيين نحو القرى المجاورة، مما خلق كارثة إنسانية جديدة في المنطقة. وفي ظل هذه التطورات الخطيرة، برزت تصريحات من الإدارة الأمريكية تُشجع على تهجير الفلسطينيين إلى الأردن ومصر، وهو ما يعكس مخططات أوسع تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الديموغرافي والجغرافي للقضية الفلسطينية. هذا العدوان على جنين لا يمكن فصله عن سياق أوسع له تداعيات كارثية على مستقبل الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية.
استنساخ خطة الجنرالات: من شمال القطاع إلى شمال الضفة
سبق عدوان جيش الاحتلال على مخيم جنين إجراءات مماثلة نفذتها السلطة الفلسطينية، شملت فرض حصار على المخيم واستهداف كتائب المقاومة بالاغتيال والاعتقالات. هذه الممارسات تُظهر ما يبدو كتعاون أمني مع سلطات الاحتلال، مما يجعل المشهد في جنين أشبه بخطط الاحتلال شمال القطاع، مع اعتماد أدوات وأساليب مشابهة. فقد استخدمت السلطة، على غرار الاحتلال، شعارات وتكتيكات مثل تسمية العمليات العسكرية، تبني خطاب مشابه، فرض الحصار، واستخدام المساعدات الإنسانية كجزء من العمل العسكري. هذا النهج يفتح الباب أمام تساؤلات حول طبيعة الدور الذي تلعبه السلطة في التعامل مع المقاومة ودوره في تعقيد المشهد الفلسطيني.
منذ بدء العدوان على مخيم جنين في 19-20 كانون الثاني 2025، وفرت السلطة الفلسطينية مساعدات للمخيم، لكن هذه الخطوة تستدعي قراءة أعمق في سياق سياساتها تجاه المخيم. فعلى الرغم من هذه المساعدات، تستمر السلطة في التحريض على المخيم، مما يثير تساؤلات حول أهدافها ودوافعها. قد يُفهم هذا السلوك على أنه محاولة لتوجيه رسائل تعكس السيطرة على أدوات كانت مرتبطة بمآسي سابقة في غزة، وربما كجزء من مسعى لاكتساب شرعية سياسية، وإن كان ذلك على حساب معاناة الفلسطينيين.
أدوات الإبادة من يد الاحتلال إلى يد السلطة
يمثل تهجير آلاف اللاجئين من مخيم جنين، بعد تدمير منازلهم على يد جيش الاحتلال، تحديًا خطيرًا يتطلب موقفًا حازمًا من السلطة الفلسطينية. ومع ذلك، لم تُصدر السلطة إحصاءات رسمية دقيقة عن أوضاع المُهجرين، كما لم تتخذ خطوات دبلوماسية أو قانونية كافية لحماية المخيم ومنع تهجير سكانه. الموقف المطلوب في هذه المرحلة لا يقتصر على توفير أماكن إيواء بديلة، بل يتطلب تحركاً فعّالاً لمنع تهجير اللاجئين وضمان حقهم في البقاء في المخيم، وهو أمر يُعد جوهرياً في مواجهة المخططات الاستعمارية الهادفة إلى تصفية المخيم وطمس هويته.
لم يقتصر استخدام السلطة الفلسطينية للأدوات المادية ضد المقاومة، بل شمل أيضًا أدوات معنوية وإعلامية مثيرة للجدل. على سبيل المثال، ظهرت مقاطع مصورة تُظهر عناصر أمن السلطة وهم يسيئون معاملة مقاومين أثناء اعتقالهم، ما أثار موجة انتقادات واسعة. بالإضافة إلى ذلك، تبنّى الخطاب الإعلامي الرسمي وغير الرسمي أحياناً وصف المقاومة بـ”الخارجين عن القانون”، وهو وصف يتماشى –بشكل أو بآخر- مع رواية الاحتلال. هذا التوجه الدعائي قد يسهم في شرعنة العنف ضد المقاومة وتهيئة الأجواء لارتكاب انتهاكات جديدة بحقها.
تطبيع الجرائم وتبريرها
طوال أكثر من عام، التزمت القوى الدولية الصمت حيال جريمة الإبادة الجماعية في غزة، بينما استمرت سلطات الاحتلال في بث دعاية محرضة لتبرير جرائمها. وفي الضفة الغربية، التي تُعتبر هدفاً سهلاً نسبياً بسبب غياب سيطرة حركة حماس على البُنى الأمنية والإدارية هناك، يبرز خطاب السلطة الفلسطينية تجاه مخيم جنين كعامل يُستغل من قبل الاحتلال.
هذا الخطاب لا يُسهم فقط في إضعاف موقف المقاومة داخلياً، بل يمنح سلطات الاحتلال ذرائع ومسوغات لعدوانها تُستخدم لتبرير سياساتها أمام الرأي العام الدولي، مما يساعد في التغطية على الطبيعة الاستعمارية للعدوان وتوسيع رقعة الاستيطان المُدان خطابيًا على المستوى الدولي، ولكن دون إجراءات عملية توقفه. كما أنّ هذه الخطاب يفوت فرصة أخرى لتوحيد الصف الفلسطيني والتفكير سُبل وأدوات مواجهة موحدة لجرائم الاحتلال، على أسس تحررية وطنية تهدف إلى تحرير واستقلال الشعب الفلسطيني.
خاتمة
تواجه القضية الفلسطينية تحديات متشابكة، نتيجة لعدوان الاحتلال وسياساته الاستعمارية المستمرة، وأيضاً بسبب الانقسامات الداخلية والتواطؤ في بعض المواقف، التي توفر غطاءً للاحتلال لإدامة جرائمه. إن استمرار العدوان على غزة وجنين، بموازاة خطاب مُهادن أو متواطئ في بعض الأحيان، يعكس أزمةً أكبر تتطلب إعادة صياغة الأولويات الفلسطينية.
المطلوب في هذه اللحظة المصيرية هو توحيد الصف الفلسطيني على أسس مقاومة شاملة، تضع التطلعات الوطنية فوق أي اعتبارات أخرى، وتسعى للعمل المُنسق والموحد على الساحة الدولية، بعيداً عن محاولات التطبيع أو الخطابات التي تُضعف الموقف الفلسطيني. كذلك، فإن العمل على صعيد الدعم الدولي والتوجه نحو ملاحقة الاحتلال قانونياً وسياسياً يظل واجباً مُلحاً لا يقل أهمية عن تعزيز صمود الفلسطينيين في الداخل.
“اليوم التالي للحرب” يجب أن يكون بداية مرحلة جديدة من النضال الفلسطيني، تقوم على الوعي بخطورة التحديات الراهنة والعمل على مواجهتها بإرادة سياسية وميدانية موحدة، تضع حداً للعدوان وتعيد تعريف المستقبل الفلسطيني بمعايير التحرر والكرامة والعدالة.
حنظلة