على مرِّ التاريخ، لم يكن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي مجرد صراع على الأرض، بل كان أيضًا حربًا على الرواية، معركة على الذاكرة، وتنازعًا على الكلمات؛ فالكلمة ليست مجرد صوت عابر في الفراغ، بل هي سلاح يُستخدم لترسيخ واقع وطمس آخر. كما استحوذت الحركة الصهيونية على مفاهيم مثل “الهولوكوست”، “الكارثة والبطولة”، و”الجونوسايد”، وجعلتها جزءًا لا يتجزأ من شرعيتها السياسية. وفي المقابل، كنا شعبًا نخوض معركتنا اللغوية، ونبحث عن مفاهيم تعبِّر عن جراحنا وأحلامنا ووجودنا المستمر، رغم محاولات الطمس.
الكلمات التي صنعت إسرائيل:
الهولوكوست: الكلمة التي أصبحت حجر الأساس في السردية الصهيونية، لم تكن مجرد وصف لمجزرة نازية، بل تحولت إلى مبرر لقيام ما سُمِّي “إسرائيل”، إذ صُوِّر المشروع الصهيوني كضرورة حتمية لإنقاذ اليهود من الإبادة. ومن هنا جاءت فكرة “الكارثة والبطولة” التي جعلت من إسرائيل نقيضًا للمحرقة، بحيث تُصوَّر كدولة قامت من رماد الإبادة، وكأنها طائر الفينيق، ينهض من الموت ليعلن سيادته على التاريخ. أما “الجيونوسايد”، فقد أُعيد توظيفه ليوهم العالم بأن أي تهديد ضد “إسرائيل” هو امتداد لمحاولات إبادة اليهود. وهكذا تحولت اللغة إلى حصن يحمي المشروع الصهيوني من أي مساءلة، وجعلت الرواية الصهيونية السائدة في العالم.
الكلمات التي تحفظ فلسطين:
وفي الجانب الآخر من هذا الصراع، كنا نقاتل للحفاظ على كلمتنا، لأن فقدان الكلمة يعني فقدان التاريخ، وفقدان التاريخ يعني خسارة الحق. ولذا ظلت النكبة حاضرة في وجداننا، وليست مجرد ذكرى، بل هي جرح مفتوح لا يزال ينزف، شاهدًا على القرى المدمرة، والمنازل المسلوبة، والعائلات التي وجدت نفسها فجأة في العراء. كانت النكبة أكثر من حدث؛ كانت هوية، كانت إعلانًا بأن فلسطين لم تُمحَ، وأن الأرض تتذكر أهلها.
ثم جاءت النكسة عام 1967. لم تكن مجرد هزيمة عسكرية، بل لحظة تجلَّى فيها عنف الاحتلال وآلته الحربية، إذ اتسع مدى التهجير والاستيطان، وأصبحت الضفة الغربية وغزة تحت قبضة حديدية تسلب أراضيها وتُمحى ملامحها. لكنها لم تقتصر على ذلك، فقد أعادت إنتاج المأساة الفلسطينية بأبعاد جديدة. ففي أعقاب النكسة، توسعت المخيمات الفلسطينية في الداخل والخارج، وتحولت من خلاص مؤقت إلى أماكن منسية، يطاردها الفقر والحصار، بينما استمر الشتات الفلسطيني في التمدد، ليجد اللاجئون أنفسهم موزعين بين العواصم العربية، يحملون مفاتيح منازلهم القديمة وأحلام العودة التي لم تتحقق. لم تكن النكسة مجرد احتلال للأرض، بل امتدادًا للنكبة، حيث أصبح الفلسطيني أكثر من مجرد لاجئ؛ بل قضية تحملها الأجيال عابرة للحدود والجغرافيا.
واليوم، بعد عقود من الاحتلال والقهر والتطهير والإبادة، وُلِدَت كلمة جديدة في قاموسنا النضالي الفلسطيني: “العرقبادة”، التي تدمج بين العرق (التطهير العرقي)، والإبادة (الإبادة الجماعية)، لتصف ما يحدث في غزة من دمار ممنهج، وقتل عشوائي، وخراب لا يُبقي ولا يذر. إنها ليست مجرد كلمة، بل صرخة في وجه العالم، إعلانًا بأن شعبنا الفلسطيني شاهد حي يروي للعالم ما يُرتكب ضدنا، ويمنحه اسمًا، لأن ما لا يُسمَّى يُنسى.
الكلمة ذكرى وهوية؛
في هذه المعركة اللغوية، لا يكفي أن تكون الكلمات موجودة، بل يجب أن تُزرع في الوعي، أن تُردد في الشوارع، أن تصبح جزءًا من الذاكرة الجماعية. فكما نشرت الصهيونية مفاهيمها حتى أصبحت جزءًا من الخطاب العالمي، فإننا يجب أن نجعل من النكبة، والنكسة، والعرقبادة كلمات لا تُنسى، تُدرس للأجيال، تُكتب في الكتب، تُقال في الأغاني، وتُنقش على الجدران. لأن من يملك الكلمة يملك التاريخ، ومن يملك التاريخ يملك الحق.
الأسير المحرر: ثائر حنيني