في قلب التاريخ، حيث تتشابك الأساطير مع الحقيقة، وحيث يصبح النص المقدس سيفًا مشرعًا في وجه الأبرياء، وُلدت الفكرة، فكرة الإقصاء، فكرة “الشعب المختار” الذي لا ينجو إلا بإبادة الآخرين. هكذا بدأ كل شيء، وهكذا يستمر حتى يومنا هذا، حيث تعود الأسطورة القديمة في ثوب حديث، تُسفك الدماء ذاتها، لكن بأدوات أكثر تطورًا، وبحجج أكثر تزويرًا.

حكاية الدم… من الأسطورة إلى المذبحة

في العصور المظلمة، كانت تُنسج حول اليهود أساطير تثير الرعب، وأشهرها ما عُرف بأسطورة “الدم”، التي ادّعت أن الطوائف اليهودية تختطف الأطفال المسيحيين لتقديمهم قرابين في طقوس دموية. لم تكن هذه سوى أكاذيب حيكت ضدهم، لكن المفارقة أن هذا الاتهام – الذي رفضوه بشدة – تجلى لاحقًا في سلوكهم، لا كخرافة بل كواقع، حين صار دم الأطفال الفلسطينيين وقودًا لدولة قامت على أشلاء الأبرياء.

النص المقدس… حين يتحول الوعد إلى لعنة

في سفر يشوع، كما في نصوص أخرى من التوراة، تتكرر عبارات الإبادة الجماعية:

“اضربوا كل حي بحد السيف، لا تُبقوا منهم أحدًا، لا تشفق أعينكم عليهم، اقتلوهم رجالا ونساءً وأطفالا وبهائم…”

هذا ليس مقطعًا من تقرير عسكري إسرائيلي، بل نص توراتي قديم، لكنه يجد صداه في عصر الصواريخ والطائرات المسيرة. هكذا بُنيت فكرة أن إبادة الآخر ليست جريمة، بل قربان يقدَّم على مذبح البقاء، وأن المجازر ليست سوى تنفيذ لوعد إلهي، وأن الدم الفلسطيني، كدم الكنعانيين من قبل، لا يستحق البقاء.

مجازر القرن… حين يصبح التاريخ لعنةً تتكرر

من دير ياسين إلى كفر قاسم، ومن قانا إلى جنين، ومن صبرا وشاتيلا إلى غزة… ذات المشهد، ذات الرائحة، ذات الأيدي التي تكتب القتل في نصوص مقدسة جديدة، لا وحي فيها سوى الدمار. كيف يمكن لأمة أن تبني وجودها على أشلاء الآخرين؟ وكيف لمجزرة أن تكون وعدًا إلهيًا؟

الحاخامات… فقهاء الدم في دولة الاحتلال

ما زالت أصوات الحاخامات المتطرفين تصرخ من المعابد، معلنةً أن قتل الفلسطيني ليس جريمة، بل واجب ديني. يفتون بإحراق القرى، بقطع الماء عن المدن، بقتل الأطفال في المهد، ويجدون في نصوصهم ما يبرر ذلك. هنا، لا يعود الدين عقيدة، بل يتحول إلى سلاح، وإلى قناع يخفي بشاعة الاحتلال خلف ستار من الوصايا الزائفة.

الخاتمة: التاريخ لا ينسى… لكنه يعيد كتابة نفسه

ربما كتب المنتصرون التاريخ بأيديهم، ربما غطّوا الحقيقة بحبر الأكاذيب، لكن الأرض تحفظ أصوات من دُفنوا تحت أنقاضها، والدماء – وإن جفّت – لا تزال تحكي القصة. القصة التي تبدأ بوعد إلهي مزعوم وتنتهي بمذبحة، لكنها، رغم كل شيء، لن تكون الفصل الأخير. لأن من كُتب عليه الفناء في أساطيرهم، كان دومًا من ينهض من بين الركام ليعيد للتاريخ كلمته الأخيرة. فالدم لا يصبح مقدسًا حين يُسفك بغير حق، والوعد لا يصبح وعدًا حين يكون طريقه على جثث الأبرياء.

الأسير المُحرر ثائر حنيني

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *