لمدة عشرين عامًا، ارتديتُ بذلة المنظمات غير الحكومية، جلستُ في ورشات “بناء السلام”، ودوّنتُ ملاحظاتٍ في مؤتمرات “التمكين”، ووزّعتُ منشوراتٍ ملوّنة عن “التسامح”، و”اللاعنف”، و”قبول الآخر”، و”المجتمع المدني القوي”…

بل كنتُ أكثر من موظفة؛ كنتُ أحمل الرسالة.

أؤمن أن التغيير يبدأ من “المجتمع المحلي”، وأن الديمقراطية تُزرع في برامج التوعية،

وأن التمويل الخارجي ليس شبهة، بل فرصة.

هكذا أقنعونا… وهكذا اقتنعت.

لكن في لحظة واحدة، انقلبت الطاولة، حين انهمرت القذائف على الأطفال،

حين سُحقت العائلات تحت الأنقاض، حين أُغلقت المعابر وأصبح علف الدواب هو الطعام الوحيد المتاح، حين اغتيل المسعف واحترق الصحفي وعُذب الطبيب حتى الموت.

نظرتُ حولي أبحث عن فرسان “العمل الإنساني”… فلم أجد أحدًا.

منظمات تجاهلت وأخرى اكتفت ببيان باهت يتحدّث عن “الطرفين”، وكأنّ طفلًا قُطّع في غزّة يعادل خوف مستوطن سمع صافرة إنذار!

مؤسسة أخرى ألغت منشور تضامن بحجّة أنه “غير متوازن سياسيًا”!

زميلة عزيزة طلبت مني “عدم الانفعال” لأن هذا قد يؤثّر على “صورة المؤسسة”.

صورة المؤسسة؟!

أي صورة تبقى لمؤسسة صامتة أمام مذابح موثّقة؟!

حينها، لم أعد موظفة.

استقالت إنسانيّتي من بروتوكولاتهم،

وانسلخت فطرتي عن تمويلاتهم،

وتذكّرت فجأة أن ما كنتُ أظنّه “عملاً إنسانيًا” كان أحيانًا عملًا ناعمًا لتخدير الحسّ، وغسل العقول، وإنتاج جيل يظنّ أن العدالة “محايدة”، وأن القاتل والقتيل يجب أن “يجلسا على الطاولة سويًّا”.

ليست كل الـ NGO’s شيطانية،

لكن كثيرًا منها كان حصان طروادة.

تسللت من أبواب “التمكين” لتنزع سلاح الوعي، ومن نوافذ “السلام” لتطبع مع القهر،

ومن شعار “الاختلاف لا يفسد للودّ قضية”، لتقتل كل قضية.

غزة لم تُحرجهم، غزة عرّتهم، لأن الذي لم ينحز للطفل المحروق لا يحق له أن يحدّثني عن “الحقوق”.

ومن صمت وهو يملك المنصة، ليس محايدًا، بل متواطئ بلغة ناعمة.

ومن اعتبر أن التضامن موقف سياسي، فقد طعن الإنسانية في ظهرها، ثم كتب تقريرًا عن “أثر القصف على الصحة النفسية للنساء” ليبدو مثقفًا.

كنت يوماً واحدة منهم…

لكني حين سمعت صرخة طفل من تحت الركام، اكتشفت أن قلبي لا يعمل بنظام تمويلي، ولا فطرتي تُراجعها لجنة أخلاقيات،

ولا إنسانيّتي تنتظر إذنًا من المانح.

اليوم، أكتب هذا لا لأدين أحد، بل لأعتذر من نفسي، ومن كل أمّ في غزّة كانت تقاوم وحدها بينما كنّا نناقش “مفهوم الحياد في النزاعات المسلحة”.

صبا منصور

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *