بقلم: طارق معمر – ناشط فلسطيني في بلجيكا، ومؤسس جمعية حنظلة – بروكسل
لا يختلف اثنان على أن الحالة السياسية الفلسطينية وصلت إلى واحدة من أدنى مستوياتها منذ عقود. الخطاب الأخير الذي ألقاه الرئيس محمود عباس أمام المجلس المركزي في دورته الـ32 المنعقدة في رام الله، لم يكن محبطاً فحسب، بل عكس استخفافاً صارخاً بالتضحيات الجسام التي يقدمها الشعب الفلسطيني، وتحديداً في قطاع غزة، الذي لا يزال يدفع ثمناً باهظاً في مواجهة حرب مفتوحة وحصار مستمر، في سبيل الثبات على حقوقه الوطنية.
ما جرى لم يكن مجرد زلة خطابية أو موقفاً شخصياً، بل يعكس مزاجاً سياسياً عاماً وسلوكاً سلطوياً متجذراً داخل بنية منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية. نحن أمام حالة لا تعبّر فقط عن تراجع في الأداء أو الخطاب، بل عن محاولة واضحة لإعادة هندسة المشهد السياسي عبر الاستحواذ على المنظمة، وإفراغها من مضمونها التمثيلي التاريخي، وتحويلها إلى أداة بيد فئة ضيقة تحتكر القرار بمعزل عن التوافق الوطني والشرعية الشعبية.
الأزمة أعمق من مجرد خطاب. إنها منظومة سياسية تعيد إنتاج ذاتها بالإقصاء لا بالشراكة، وبالولاء لا بالكفاءة. ما يجري داخل منظمة التحرير والسلطة في رام الله هو مشروع تفرد وهيمنة، يسعى لإعادة هيكلة المؤسسات الوطنية على مقاس فئة معينة، لا على أسس وطنية جامعة.
المجلس المركزي في دورته الـ32 انعقد في ظل مقاطعة قوى رئيسية وأساسية، على رأسها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والمبادرة الوطنية، إلى جانب الغياب المستمر لحركتي حماس والجهاد الإسلامي. الجبهة الديمقراطية، رغم مشاركتها، عبرت عن احتجاجها عبر كلمة جريئة ألقتها د. ماجدة المصري، التي حذّرت فيها من المخاطر التي تهدد المشروع الوطني من الداخل. كما انسحب حزب الشعب لاحقاً احتجاجاً على تغييب الحوار الوطني وتجاهل الحد الأدنى من متطلبات العمل المشترك.
كل هذه المعطيات تؤكد أننا لا نشهد مشهداً توافقيّاً، بل نعيش تحت سلطة تُدار بعقلية فوقية مغلقة، تُقصي الجميع وتضيّق المجال السياسي إلى حد الاختناق. وفي ظل غياب تحكيم العقل وإغلاق الباب أمام أي مشروع وحدة وطنية، تتسع الفجوة بين القيادة والشارع، وتفقد منظمة التحرير دورها التمثيلي التاريخي، لصالح نُخب فاقدة للشرعية.
في هذا السياق، يبرز اسم حسين الشيخ، الذي صعد نجمه بشكل لافت عبر سلسلة تعيينات في مواقع حساسة داخل المنظمة والسلطة. هذا الصعود لا يرتكز إلى مؤهلات استثنائية أو خلفية نضالية أو علمية، بقدر ما يعكس طبيعة النظام السياسي القائم في رام الله، المبني على الولاء الشخصي والامتثال، لا على الكفاءة أو الرؤية الوطنية.
الشيخ يُقدَّم اليوم كأحد أبرز “الورثة المحتملين” لما بعد الرئيس محمود عباس، لا لأنه يتمتع بشرعية أو قبول شعبي، بل لأنه يُمثّل خياراً مضموناً للأطراف الإقليمية والدولية، التي تفضّل “الاستقرار” على الإصلاح أو الديمقراطية. في المقابل، تم تهميش شخصيات بارزة مثل ماجد فرج، وجبريل الرجوب، وعزام الأحمد، وتوفيق الطيراوي، ومحمود العالول، الذين كان لهم حضور سياسي وأمني في مراحل سابقة. وبهذا، يُعاد تدوير النفوذ داخل حلقة مغلقة من المحسوبية والولاءات.
أما الأجهزة الأمنية، فتلعب دوراً محورياً في ترسيخ هذا النموذج. إذ بات الولاء للمركز، والالتزام بالتنسيق الأمني، معياراً أساسياً للترقي والنفوذ، فيما يُقصى أو يُحاصر كل من يظهر ميلاً للاستقلال أو يعبّر عن معارضة للنهج القائم. وهكذا تتحول السلطة إلى أداة للضبط، لا للتمثيل، وتفقد المنظمة جوهرها كحركة تحرر وطني.
إقليمياً ودولياً، هناك صمت مريب بل ودعم ضمني لهذا المسار، عبر التعامل مع القيادة الحالية باعتبارها الشريك الوحيد الممكن، رغم افتقارها للتفويض الشعبي، وعدم قدرتها على توحيد الصف الوطني أو تقديم مشروع مقاومة موحّد. بعض العواصم العربية تتعامل مع الحالة الفلسطينية باعتبارها ملفاً أمنياً، وتُفضّل شخصيات يسهل توقع سلوكها مثل حسين الشيخ. أما على الصعيد الدولي، فالأولوية لمن يمكن التفاهم معه، حتى وإن كان على حساب الديمقراطية وتجديد الشرعيات.
لكن هذا المشهد لا يعكس استقراراً حقيقياً، بل أشبه ببركة راكدة تخفي تحتها توتراً سياسياً واجتماعياً كامناً. فكلما زاد الإقصاء وتركّز القرار في يد قلة، زادت احتمالات الانفجار السياسي الداخلي، خصوصاً في غياب أي مسار واضح لانتقال السلطة، أو الحد الأدنى من الشراكة الوطنية الجامعة.
يبقى السؤال: هل ما زال ممكناً إنقاذ منظمة التحرير من هذا المصير؟ وهل سيقبل الفلسطينيون باستمرار هذا التفرد وتغوّل السلطة على ما تبقى من حياتهم السياسية؟ أم أن اللحظة التاريخية تقترب لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس ديمقراطية وشراكة حقيقية تُعيد القرار إلى الشعب، لا إلى الغرف المغلقة؟
والسؤال الأكبر يظل معلقاً: هل يقبل الفلسطينيون، الذين قدّموا أغلى التضحيات، بأن يُفرض عليهم وريث جديد بالأدوات القديمة ذاتها؟ أم أن الانفجار قادم لا محالة، لتفتح معه معادلة جديدة تعيد الاعتبار للإرادة الشعبية، وتُسقط احتكار القرار الوطني؟