مقدمة: حین تغدو الشجرة وطنًا

كان موسم الزیتون بالنسبة لنا ھو العید، في كل موسم في الأول من تشرین، نجتمع عند جدي لتبدأ مراسم القطاف. بعد التجمع یتم تقسیم المھام، جزء منا على الشجرة و جزء منا على الشادر ھذه المھام تقسم على حسب العمر لا المھارة، الأكبر عمرا على الشجرة و مھمتھ ( الفرط) و الأصغر على الشادر یستقبل حبات الزیتون برأسھ الذي یتورم بعد انتھاء الموسم. وكانت الجمعة تشمل الغذاء الجماعي، الغناء، الرقص، صراخ جدتي خوفًا علینا، تقطیع البندورة للسلطة، ثم الاستراحة ویبدأ جدي بسرد القصص عن البلاد.

لیست شجرة الزیتون في فلسطین مجرد نباتٍ معمّر، ولا عنصرًا في طبیعة خلابة، بل ھي تجسید حي لذاكرة جماعیة تتجاوز الرمزیة إلى الوجود الفعلي. فعلى امتداد آلاف السنین، ارتبط الفلسطیني بشجرة الزیتون بعلاقة تكاد تكون بیولوجیة؛ جذورھا في عمق الأرض، كبقاء الإنسان الفلسطیني في عمق التاریخ، وبذورھا الراكدة تحت التربة تمثّل الذاكرة، والانتظار، والوعد بالاستمرار، ودماء الشھداء.

في ظلّ الاحتلال، والنكبات، والاستیطان، تحوّلت شجرة الزیتون من مصدرٍ غذائي إلى رمز سیادي، ووسیلة مقاومة، ومشھد متكرر في الأدب، والسیاسة، والھویة الثقافیة. وقد أكدت منظمة الأغذیة والزراعة للأمم المتحدة (FAO) في تقریرھا عام 2022 أن الزیتون یمثل أكثر من نصف المساحات المزروعة بالأشجار في الضفة الغربیة وقطاع غزة، ویُعتبر بذلك العمود الفقري للزراعة الفلسطینیة.

الجذور التاریخیة والعضویة: الزیتونة أقدم من الحدود

یُجمع علماء الآثار والباحثون الزراعیون أن الإنسان أول ما تعلم زراعة الزیتون تعلمھا في فلسطین. إذ تشیر أبحاث نشرتھا جامعة حیفا بالتعاون مع المركز الدولي لبحوث الزیتون (IOC) أن زراعة الزیتون بدأت في حوض المتوسط منذ 6000 عام، وكانت فلسطین من بین أوائل الأراضي التي زرعت فیھا ھذه الشجرة، ویُعتقد أن “تل المدوّر” و”تل السلطان” في أریحا احتضنا أوائل كروم الزیتون المنظمة (International Olive Council, 2019).

وتدل الشواھد الأثریة الموجودة في قرى مثل الولجة وبیت فجار على وجود زیتونات معمّرة یُقدّر عمرھا بأكثر من ثلاث ألاف سنة، وفقًا لتقاریر مؤسسة ARIJ للأبحاث الزراعیة والبیئیة. ھذه الأشجار لا تزال قائمة حتى اللحظة، وتُروى حولھا قصص متوارثة على لسان الفلاحین عن حروب مرت، وإمبراطوریات قامت وسقطت، وبقي الزیتون شاھدًا.

یظھر الفلسطیني وھو یتحدث عن الزیتون كـ فیلسوف وعالم، ویظھر كمقاتل یتسم بالفروسیة، یتحدث عنھا بطلاقة ویحكي عن تاریخھا وعن الطرق الأنسب للزراعة ومتى یحین القطاف وما علاقتھ بھا وكیف یفھمھا، ویزداد حماسًا بالحدیث عن حمایتھا، لأن شجرة الزیتون أرضھ، إن مشھد احتضان شجرة الزیتون في فلسطین لیس مشھدًا عاطفیًا حصل لمرة واحدة، ھذا مشھد متكرر في كل موسم.

بیولوجیًا، تتمیز شجرة الزیتون بجذور قویة تتغلغل في عمق الأرض لمسافات تصل إلى ستة أمتار، بحسب تقاریر جامعة كالیفورنیا – دیفیس في مختبر زراعة الزیتون، مما یجعل اقتلاعھا صعبًا حتى بالمعدات الثقیلة. ھذه الطبیعة “المتجذرة” لیست مجرد تفصیل زراعي، بل عنصر جوھري في الخطاب الفلسطیني عن الأرض، والذي یرى فيالجذر الممتد تشبیھًا عضویًا للانتماء العمیق، والثبات المستمر.

الزیتون: رمز ثقافي واجتماعي

في المشھد الفلسطیني، لا یُمكن النظر إلى الزیتون فقط كنشاط زراعي، بل كعنصر متجذر في الثقافة الیومیة، والعلاقات الاجتماعیة، والعادات الریفیة. فقد تحوّل موسم الزیتون إلى ما یشبھ “العید الشعبي”، تعود فیھ العائلات من المدن والمنافي إلى الأراضي الزراعیة، ویتحول القطاف إلى طقس جماعي یُعید للفلسطیني علاقتھ المباشرة بالأرض، والعائلة، والھویة.

في دراسة أجرتھا جامعة بیرزیت عام 2018 حول “الزیتون كعامل في تشكیل الھویة الریفیة الفلسطینیة”، توصّل الباحثون إلى أن كل المشاركین في القطاف اعتبروا موسم الزیتون مناسبة اجتماعیة تجمع العائلة، وأن ھذا الموسم یرتبط في أذھانھم بـ”الفرح، والتعاون، والانتماء”.

یبدأ موسم قطاف الزیتون عادةً في أكتوبر، ویستمر حتى أوائل دیسمبر. خلال ھذه الفترة، تُعلقّ المدارس في بعض القرى، وتُفرغ البیوت من سكانھا صباحًا. ینتشر الناس في الحقول، یحملون السلال، والعصي، والغربال، والزیتون الذي یُجمَع یُحمَل لاحقًا إلى المعصرة. إنھ موسم لا یرتبط فقط بالإنتاج، بل بالروح، حیث تختلط رائحة الطین برائحة الشاي، وضحك النسوة بأغاني القطاف القدیمة. طقوس القطاف تمثل لدى الریفي الفلسطیني، طقسًا من طقوس إثبات الذات الجماعیة، ووسیلة لحفظ علاقات القربى، والتوریث غیر الرسمي للھویة من جیل إلى جیل.

وأغاني الفلاحین، والأمثال الشعبیة، والأھازیج التي تُتلى في الحقول، كلھا تُظھر شجرة الزیتون كبطلة للحكایة الیومیة. فمثلًا یقول المثل الفلسطیني:

“الزیت دھن الملوك، والزیتون سُفرة الفقیر”.

وھناك مثلٌ آخر یُردّد في الضفة الغربیة:

یا محلاك یا زتون بلادنا، یا محلاك یا زتون بلادنا اورثناك احنا عن أجدادنا … ورثناك منّا لأولادنا

وقد وثّقت الباحثة سمیرة عزام في كتابھا “التراث الفلاحي الفلسطیني” أكثر من 70 مثلًا شعبیًا متعلقًا بالزیتون، ما یضع ھذه الشجرة في مكانة خاصة ضمن المخیال الشعبي الفلسطیني، ویؤكد أنھا لیست مجرد نبات، بل ذاكرة متكلمة.

ولكن ھذا الطقس الشعبي المكلل بالغناء والفرح وفزعات الأھل والجیران، لا یكتمل بھذه الصورة أبدًا، لأن الفلسطیني لا یسلم أبدًا من المحتل الصھیوني النزق، المُصر على أن یعكّر أي ملمح یُثبت أن ھذه الأرض لھا أصحاب، فلا یكتمل موسم القطاف بدون قنابل مسیلة ورصاص حي، واقتحامات لإجبار الفلسطیني على أن یترك أرضھ وأن یلغي مواسمھ وأعیاده، ولكن الفلسطیني یشبھ تلك الشجرة فینغرس أكثر بالأرض، یرمي الحجر وھو مستمر بالغناء.

أن شجرة الزیتون تُعتبر “وقفًا عائلیًا”، أي أن الأرض المزروعة بالزیتون غالبًا لا تُباع، ویُحرّم عند بعض العائلاتاقتلاعھا. بل یتم الإشارة إلى الشجرة باسم من زرعھا: “زیتونة جدّي”، “غُرسة أبوي”، وغیرھا. وفي كثیر من الحالات، یُطلب من الأحفاد حفظ مكان الشجرة كما لو كانت ضریحًا مقدسًا.

ووفق تقریر صادر عن وزارة الزراعة الفلسطینیة عام 2021، فإن أكثر من نصف بساتین الزیتون الحالیة ھي ورثة من الجیل الثالث أو الرابع، ما یعكس عمق العلاقة، وطول عمرھا، واستمرارھا رغم كل المتغیرات السیاسیة والاجتماعیة.

الزیتون في الشعر والأدب

منذ بدایات الحركة الشعریة والسیاسیة في فلسطین، احتل الزیتون مكانة بارزة في اللغة الشعریة والمخیال الأدبي. ولم یكن حضوره تجمیلیًا أو وصفیًا فقط، بل جاء دائمًا محمّلًا بالرمزیة الثقیلة، التي تجمع بین الأرض، و الدم، والمقاومة. لم تكن شجرة الزیتون عند الشاعر الفلسطیني مجرد غصن أخضر، بل كانت وطنًا یُعبّر عنھ حین یُمنَع من ذكر اسمه. لعل أبرز من ارتبط اسمھ بشجرة الزیتون ھو محمود درویش. في العدید من قصائده، وظّف الزیتونة كرمز مركزي، یجمع بین الثبات والمعاناة. في قصیدة “على ھذه الأرض”، یقول:

على ھذه الأرض ما یستحق الحیاة:

على ھذه الأرض، سیدةُ الأرض،

أ ُّ م البدایاتِ أ ُّ م النھایات، كانت تسمى فلسطین، صارتْ تسمى فلسطین،

سیدتي: أسَتح ُّ ق، لأنك سیدتي، أسَتح ُّ ق الحیاة.

وفي سیاق آخر، یتحدث عن الزیتون كذاكرة مقاومة:

إنّا نحبّ الورد، لكنّا نحبّ القمحَ والزیتونَ أكثر

نحبّ عطرَ الورد، لكنْ سنقتلعُ الأعشابَ من حقل القصیدة

ھنا، یحوّل درویش الزیتون إلى بوصلة بقاء، رمزًا یومیًا لكنھ ممتلئ بالشعر، ممزوج بحیاة الفلاحین، وخبزھم، وأحزانھم. وفي قصائد فدوى طوقان، الشجرة تأخذ أحیانًا طابعًا أنثویًا، كأنھا الأم أو العاشقة التي تحضن الوطن. تقول في إحدى قصائدھا:

شجرتي، زیتونتي، ظلكِّ في المنفى وطن، وثماركِ رُضاب الذاكرة،

تحملینھ كما تحمل الأم ولیدھا في الجمر.

وھنا یتحوّل الزیتون إلى استعارة مزدوجة: أرض/أم، غربة/ظل، ذِكرى/ثمرة. وھذه الطبقات من المعاني تعكسقدرة الشعر على تكثیف الرمزیة الشعبیة وتحویلھا إلى أداة خطاب أدبي مركب.

معركة الوجود والسیادة

في فلسطین، شجرة الزیتون لیست مجرد غرسٍ في التراب، بل خط تماس مباشر مع مشاریع الطمس، و المصادرة، والاستیطان. لقد تحوّلت زراعة الزیتون إلى ساحة من ساحات النضال، حیث لا تُجنى الثمار فقط، بل تُق َّ دم الأرواح أحیانًا لحمایتھا.

یُشكّل الزیتون العمود الفقري للزراعة الفلسطینیة، لیس فقط من حیث المساحة المزروعة، بل من حیث عدد العائلات التي تعتمد علیھ كمصدر دخل رئیسي أو موسمي. ووفق إحصائیة رسمیة صادرة عن وزارة الزراعة الفلسطینیة عام 2023، تغطي أشجار الزیتون حوالي نصف مجمل الأراضي الزراعیة في الضفة الغربیة وقطاع غزة، أي ما یزید عن 10 ملیون شجرة زیتون، ویعمل في موسم القطاف قرابة 100 ألف أسرة فلسطینیة بشكل مباشر أو غیر مباشر.

أما الإنتاج، فیُق َّ در بنحو 30 إلى 40 ألف طن من زیت الزیتون سنویًا، مع تذبذب واضح تبعًا للمناخ والسیاسات الإسرائیلیة. وتشیر بیانات المركز الفلسطیني للإحصاء (2022 PCBS،) إلى أن ما نسبتھ 70% من زیت الزیتون المنتج یُستھلك محلیًا، بینما تُص َّ در الكمیات المتبقیة إلى أسواق عربیة وأوروبیة، خاصة السوق الإیطالي والإسباني، ما یوفر مصدرًا من مصادر العملة الصعبة، ویُسھم في تعزیز الاقتصاد المحلي المقاوم.

لكن التحدیات الاقتصادیة كبیرة. فبحسب تقریر منظمة Oxfam لعام 2021، یتكبّد المزارع الفلسطیني خسائر سنویة تُق َّ در بملایین الدولارات بسبب القیود الإسرائیلیة على التنقل، وإغلاق المعاصر في بعض المناطق، ومصادرة الأراضي المزروعة بالزیتون، فضلًا عن ھجمات المستوطنین التي تصاعدت في السنوات الأخیرة.

الشجرة التي تُحاصر وتقف

لا یمكن الحدیث عن الزیتون دون الحدیث عن المقاومة، إذ باتت شجرة الزیتون في الخطوط الأمامیة للاشتباك مع الاحتلال، وخاصة في مناطق مثل نابلس، سلفیت، الخلیل، وبیت لحم. فقد تحولت محاولات اقتلاع الأشجار، أو إحراقھا، أو مصادرة الأراضي المزروعة بھا، إلى أخبار یومیة.

وفقًا لتقریر صادر عن ھیئة مقاومة الجدار والاستیطان (2022)، فإن المستوطنین اقتلعوا أو أحرقوا أكثر من 16 ألف شجرة زیتون في الضفة الغربیة بین عامي 2019 و2021، في حین سُجّلت أكثر من 300 اعتداء جسدي على مزارعین أثناء موسم القطاف.

لكن الرد الفلسطیني كان دائمًا في الاتجاه المعاكس: إعادة الزراعة. ظھرت مبادرات عدیدة تحت مسمیات عدة والتي تھدف إلى إعادة زراعة كل شجرة تم اقتلاعھا، وغالبًا ما یُقام لھذه العملیة طقس رمزي تشارك فیھ عائلات الشھداء والأسرى، في إشارة إلى أن المقاومة تبدأ من الأرض، كما من السلاح .

“نزرع حیث یقطعون، ونبني حیث یھدمون، ونقطف حیث یرعبون.”

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *