قراءة فيما بعد وقف النار
بدأت المواجهة في الثالث عشر من حزيران بهجوم جوي واسع شنّته “إسرائيل” على أراضٍ إيرانية، في عملية عسكرية مفاجئة حملت اسم “الأسد الصاعد”، خلال ساعات قليلة، استُهدفت مواقع استراتيجية متعددة، شملت منشآت نووية ومقارًا عسكرية وأنظمة دفاع جوي، إلى جانب بنى اقتصادية ومدنية.
ركّزت إسرائيل نيرانها في الأيام الأولى على مواقع ذات طابع استراتيجي داخل العمق الإيراني، منها منشآت نووية، وقواعد صاروخية، وأنظمة دفاع جوي، بالإضافة إلى بنى اقتصادية ومدنية، كما استهدفت الضربة عددًا من القادة العسكريين البارزين، من بينهم حسين سلامي القائد العام للحرس الثوري، ومحمد باقري رئيس هيئة الأركان، وأمير علي حاجي زاده قائد القوات الجوفضائية، إلى جانب شخصيات علمية مرتبطة ببرنامج إيران النووي.
الرد الصاروخي الإيراني: “الوعد الصادق – 3“
في المقابل، جاء الرد الإيراني سريعًا وواضحًا تحت مسمى “الوعد الصادق – 3″، إيران التي راكمت قدراتها الصاروخية على مدى أكثر من أربعة عقود، أطلقت صواريخ بعيدة المدى باتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة، معلنة أن موازين المعركة لن تميل بسهولة، استهدفت هذه الصواريخ مواقع أمنية واستراتيجية بارزة، من بينها مقر جهاز الموساد في هرتسليا، ومقر وحدة الاستخبارات العسكرية “أمان”، وميناء حيفا . لم يكن الرد عسكريًا فحسب، بل حمل بعدًا رمزيًا قويًا، مفاده أن القدرة على الرد موجودة، وأن طهران تحتفظ بخياراتها حتى في أشد اللحظات، وأن الرد ليس محصورًا في حدود الدفاع فقط .
التدخل الأميركي ووقف إطلاق النار
مع تصاعد حدة المواجهة، تدخلت الولايات المتحدة، التي التزمت الحذر في الأيام الأولى، لتنفيذ غارات جوية في اليوم العاشر عبر قاذفات B-2 على منشآت نووية في نطنز وأصفهان وفوردو، بدا التدخل الأميركي حاسمًا، لكنه لم ينجح في كبح الردع الإيراني أو تغيير مسار المواجهة بشكل جذري . في اليوم الثاني عشر من الحرب، تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين الجانبين، عقب تدخل الرئيس الأميركي، وبدعم من الوساطة القطرية.
تقييم أهداف الحرب
مع عودة الهدوء الحذر إلى المشهد، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن”إسرائيل” “أنجزت أهدافها” من الحرب، لكن هذا التصريح أثار تساؤلات عديدة حول مدى واقعيته فمنذ بداية الهجوم، حددت “إسرائيل” هدفين أساسيين: القضاء على البرنامج النووي الإيراني، وإحداث تغيير جوهري في بنية النظام السياسي في طهران، وبعد أحد عشر يومًا، لم يظهر أن أيًا من هذين الهدفين قد تحقق فعليًا، مما يطرح علامات استفهام حول طبيعة “الإنجازات” التي تحدّث عنها نتنياهو.
المؤشرات لا تدعم هذا الادعاء، إذ نقلت إيران كميات المواد القابلة للانشطار – التي تشكل العمود الفقري لبرنامجها النووي – من منشأة فوردو قبل استهدافها بالقاذفات الأميركية، هذه الخطوة الاستباقية قلّلت بشكل كبير من فعالية الضربة، وأضعفت احتمالات تحقيق هدف “اجتثاث” القدرات النووية الإيرانية، الذي رفعته “إسرائيل” كعنوان رئيسي للعملية، وبذلك يبدو الحديث عن إنجاز نوعي في هذا السياق أقرب إلى المبالغة منه إلى الواقع الفعلي على الأرض.
أما فيما يتعلق بهدف “تغيير النظام” داخل إيران، فقد جاءت النتائج على النقيض مما كانت تأمله “إسرائيل”، راهنت تل أبيب على أن اغتيال كبار القادة الأمنيين والعسكريين قد يفتح الباب أمام اضطرابات داخلية أو حتى انتفاضة شعبية ضد النظام، وكان الرهان مبنيًا على فرضية أن ضرب رأس الأجهزة العسكرية – وعلى رأسها الحرس الثوري – سيُفقد النظام توازنه.
لكن ما حدث فعليًا كان عكس ذلك تمامًا، فعوضًا عن زعزعة النظام، أدّت الاغتيالات إلى تعزيز حالة التماسك الداخلي، لا سيما بين فئات من الإيرانيين كانت في فترات سابقة على خلاف مع السلطات، فقد ولّدت الاعتداءات الإسرائيلية رد فعل وطنيًا أوسع من الاصطفاف السياسي التقليدي.
حتى أولئك الذين يُصنفون كخصوم صريحين للنظام، وجد كثير منهم أنفسهم يدينون الهجوم وينظرون إليه باعتباره اعتداءً لا يستهدف السلطة فقط، بل يمس السيادة الوطنية بكاملها، بهذا المعنى لم تنجح إسرائيل في تحقيق اختراق داخلي، بل ساهمت – دون قصد – في إعادة تشكيل وحدة داخلية حول فكرة “الدفاع عن الوطن”، بغض النظر عن الموقف من النظام نفسه.
وقف إطلاق النار وصمود إيران
في هذا السياق، لم يكن وقف إطلاق النار نهاية طبيعية لجولة قتالية، بقدر ما جاء نتيجة مباشرة لصمود إيراني واجه آلة الحرب الإسرائيلية بكل عنفوانها، مع دخول الحرب يومها الثاني عشر، بات واضحًا أن الأهداف التي أعلنتها تل أبيب لم تتحقق، وأن كلفة الاستمرار في التصعيد أصبحت أعلى من أي مكاسب مرجوة.
“إسرائيل”، التي أعلنت قبولها بوقف إطلاق النار، حاولت في الساعات الأولى اتهام طهران بخرق الهدنة عبر صاروخ قالت إنه أُطلق من داخل الأراضي الإيرانية، مهددة بالرد، لكن الواقع الميداني لم يشهد أي تصعيد جديد، في مؤشر واضح على أن الرغبة في احتواء المواجهة كانت حقيقية، خصوصًا من الطرف الذي بدأ الحرب ولم ينجح في إنهائها كما أراد.
و ساهم المزاج العام داخل إسرائيل، إلى جانب الضغوط الدولية وفعالية الرد الإيراني، في دفع تل أبيب إلى مراجعة حساباتها، ويعيد هذا المسار إلى الأذهان سيناريوهات مشابهة، مثل وقف إطلاق النار مع غزة في ديسمبر/كانون الأول، حيث جاء التراجع الإسرائيلي نتيجة عجزه عن كسر خصمه رغم التفوق العسكري النظري، وكان ذلك في جوهره هزيمة لإسرائيل.
المفاجآت على الأرض
دخلت “إسرائيل” هذه الحرب بثقة مفرطة، مستندة إلى تفوقها العسكري والدعم الأميركي غير المشروط، ومتماهية مع تصورات استخبارية رسّخت لديها اعتقادًا بأن المواجهة ستكون سريعة ومحسومة، لكن الواقع الميداني سرعان ما فاجأها وقلب تلك التصورات رأسًا على عقب.
في الأيام الأولى، استفادت إسرائيل من كم كبير من المعلومات التي جمعها جهاز الموساد على مدى سنوات، وبدا أن ضربة البداية مبنية بدقة على هذه المعطيات، إلا أن الميدان كما يحدث غالبًا في الحروب طويلة النفس، كشف هشاشة هذا الركن، إيران التي راكمت قدراتها الدفاعية خلال عقود من المواجهة الباردة، لم تكن خصمًا سهلاً أو قابلًا للكسر.
مع مرور الوقت، واجهت “إسرائيل” مفاجآت غير محسوبة، من أسلحة نوعية وأنظمة صاروخية محلية، وتكتيكات دفاعية هجومية لم تكن مدرجة في تقديرات الاستخبارات، تحولت الحرب من عملية خاطفة إلى مواجهة استنزاف، وبدأت علامات الإرهاق تظهر في الجبهة الإسرائيلية.
أكثر ما أربك القيادة العسكرية في تل أبيب هو الأداء غير المتوقع لقدرات إيران الصاروخية، فالقبّة الحديدية التي طالما تباهت بها “إسرائيل”، بدت عاجزة عن مجاراة كثافة النيران، ولا عن صد الضربات الدقيقة، مع تتابع الصواريخ وصلت الرؤوس المتفجرة إلى عمق تل أبيب، وميناء حيفا، وبعض المنشآت الحيوية، ما أدى إلى شلل جزئي في البنية التحتية، وتحولت العملية العسكرية إلى مأزق استراتيجي لا يمكن تغطيته بالخطاب السياسي.
ورغم خسارتها عددًا من القادة البارزين، أظهرت إيران قدرة لافتة على امتصاص الضربة وتجاوزها، إذ ردّت في الأيام التالية وكأن شيئًا لم يحدث، مستخدمة للمرة الأولى صواريخ فرط صوتية في تجربة ميدانية شكلت مفاجأة استراتيجية لتل أبيب، لم تكن الرسالة في عدد الصواريخ فقط، بل في نوعيتها، وقدرتها على تجاوز الدفاعات الجوية المتقدمة، مما أدخل الداخل الإسرائيلي في حالة من الإرباك والقلق. قد تبدو كفة الخسائر المادية والعسكرية غير متساوية على السطح، لكن عند قراءة الأثر الاستراتيجي لتلك الخسائر، يتضح أن إسرائيل هي من دفعت الثمن الأثقل، وهو ما مهد فعليًا للقبول بخيار الهدنة بعد 12 يومًا من التصعيد .
الأثر الإقليمي والدولي
كان التصعيد واردًا من الناحية التقنية، لكن طهران لم تكن تفتقر إلى أوراق الرد، بل أعلنت في تصريحات رسمية أنها كانت على علم مسبق بنوايا استهداف منشآتها النووية، واتخذت خطوات احترازية سبقت الضربات، من بينها نقل المواد المخصبة من المواقع الحساسة . لم يقتصر ردها على الداخل الإسرائيلي فقط، بل وسع نطاقه ليشمل رسائل مباشرة وغير مباشرة تجاه الوجود الأميركي في المنطقة، مؤكدة أن لديها هامشًا واسعًا في حال قررت المواصلة .
حتى ضمن حدود هذا التصعيد المحسوب، تلقت الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط ضربة غير بسيطة، فلم تعد ورقة “التهديد الإيراني” تملك الزخم ذاته الذي اعتمدت عليه واشنطن لعقود، البيان الختامي لاجتماع وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول مثّل مؤشرًا واضحًا على تحوّل المزاج العام، إذ بدأ ما كان يُنظر إليه كخطر قادم من طهران يتراجع أمام تصاعد الوعي الجماعي بخطورة المشروع الصهيوني في الإقليم.
هذا التحول لا يقتصر على الخطاب السياسي، بل يمتد إلى البنية التي قامت عليها معادلات التسلح والتحالف في الخليج، والتي بُنيت على قاعدة التخويف من إيران، مع إعادة تموضع الصورة الذهنية لطهران بعد المواجهة الأخيرة، تزداد هشاشة هذه القاعدة، وتدخل المنظومة التقليدية للتحالفات في المنطقة مرحلة مراجعة جادة .
أما في واشنطن، فقد أظهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب رغبةً لافتة في إغلاق ملف الحرب سريعًا، حين وصفها بـ “حرب الاثني عشر يومًا”، وسعى شخصيًا لرعاية اتفاق وقف إطلاق النار، هذا السلوك طرح تساؤلات حول عمق التأثير الإسرائيلي على القرار الأميركي، خاصة أن ترامب بدا وكأنه انزلق إلى مواجهة لم تكن أولوية بالنسبة إليه، استجابةً لاندفاع بنيامين نتنياهو.
وقد كتبت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن الأمن القومي الأميركي تلقّى صفعة مزدوجة، أولًا بفعل الفوضى التي رافقت القرار، وثانيًا لعجز الإدارة عن اتخاذ موقف مستقل أمام ضغوط تل أبيب، وهي ملاحظات تتجاوز دائرة التحليل السياسي، لتصبح موضع قلق لدى الناخب الأميركي نفسه، الذي بدأ يتساءل عن حجم الدور الخارجي الذي باتت تلعبه إسرائيل داخل القرار السيادي الأميركي.
ومع تصاعد وتيرة الحرب، برزت مؤشرات لافتة على تراجع القدرة الإسرائيلية على الاستمرار في المواجهة المفتوحة، فقد تحدّثت المقالة عن بوادر نفاد في الذخائر الإسرائيلية، وعلى رأسها الصواريخ الاعتراضية، ما ألقى بظلال ثقيلة على جاهزية منظومة الدفاع الجوي، والتي تتكوّن من أربع طبقات متكاملة، وبينما كانت إسرائيل تعتمد تقليديًا على الدعم الأميركي لتجديد مخزونها خلال الأزمات، كشفت هذه الجولة أن هذا الرهان لم يعد مضمونًا.
كما أشارت المقالة ايضا إلى أن واشنطن نفسها لا تملك فائضًا استراتيجيًا كبيرًا من الصواريخ الذكية، إذ تملك ما يكفي فقط لخوض حرب شاملة تمتدّ لثلاثة إلى أربعة أسابيع، قبل أن تحتاج ما بين أربع إلى ست سنوات لإعادة تعبئة هذا المخزون إلى مستواه الطبيعي في هذا السياق، فإن القدرة على تزويد إسرائيل بما تحتاجه من ذخائر خلال حرب طويلة المدى باتت محل شكّ، لا سيما في ظلّ تعقّد الملفات العالمية التي تنخرط فيها واشنطن عسكريًا.
وهنا تظهر المفارقة الصادمة، إيران التي لطالما حُوصرت ومنعت من شراء الأسلحة المتطورة، استطاعت أن تبني قدراتها الصاروخية داخليًا على مدى عقود، حتى أصبحت تمتلك مخزونًا ضخمًا من الصواريخ التقليدية والذكية، وهو ما يصعّب على إسرائيل تحمّل كلفة مواجهة طويلة معها.
الخاتمة: إسرائيل بين الهزيمة العسكرية والأخلاقية
في نهاية المطاف، لم تنجح “إسرائيل” في فرض شروطها، ولا في تحقيق أهدافها المُعلنة من هذه الحرب. فالضربة التي بدأت على أمل تحجيم القدرات الإيرانية، انتهت بكشف حدود القدرة “الإسرائيلية” – عسكريًا ولوجستيًا وحتى استخباراتيًا.
النتيجة الأوضح : فشل بنيامين نتنياهو سياسيًا، بعد أن قاد بلاده إلى حرب قصيرة ومكلفة دون أن يُحدث فيها أثرًا يُذكر سوى المزيد من الخسائر والارتباك أما إيران، فقد خرجت من هذه الجولة أكثر رسوخًا، بعدما أثبتت أن قدرتها على الردع ليست مجرّد استعراض، وأن برنامجها النووي لا يُقصف بالشعارات ولا يُجتث بالحملات المفاجئة.
على الطرف المقابل، ظهرت “إسرائيل” كقوة نووية مرتبكة، عاجزة عن تحمّل حرب طويلة، وتعتمد بالكامل على مظلّة أميركية باتت هي الأخرى تعاني من التآكل والحدود ، الأهم من ذلك أن هذه الحرب كشفت مجددًا طبيعة “المشروع الإسرائيلي”، ليس كقوة “دفاع” بل ككيان عدواني توسعي، يستمدّ وجوده من القتل وترويع الشعوب، فقبل أيام فقط من الحرب على إيران، كانت غزة تحت نيران الإبادة، ومجازر الأطفال والمدنيين تتصدّر الشاشات، لا فرق في العقلية ولا في المنهج، بل استمرارية جريمة واحدة بأوجه متعدّدة .
لقد هُزمت إسرائيل، ليس فقط عسكريًا، بل أخلاقيًا أيضًا، ولم تعد حروبها قادرة على كسب التعاطف أو تأكيد “حقها في الدفاع”، بعد أن أصبحت ممارساتها موثّقة كجرائم ضد الإنسانية. مع وقف إطلاق النار، لم تُقفل صفحة الصراع، بل كُتب عنوان جديد على الغلاف :”إسرائيل لم تعد الطرف الأقوى، بل الطرف الأخطر.”