كنتُ قد تناولتُ في مقالٍ سابق الظروف التاريخيّة لظهور اليسار منذ فجر التاريخ الذي بدأ مع ظهور الملكية الخاصة التي رافقها غياب العدالة في التوزيع الاجتماعي للخيرات المادية. اليسار وقواه تعبير عن تيار اجتماعي يعكس مصالح القوى الاجتماعية المنظمة التي أخذت شكل حركات وجبهات وأحزاب انعكس موقفها نتيجة تحديد موقعها في عملية الإنتاج الاجتماعي ومواقفها الذي تعبر عنها من خلال استخدام أدوات التحليل المادي للقوانين المحركة للمجتمعات تفسيرها للظواهر الطبيعية وتطورت ومعارفها الفكرية عبر الزمن نتيجة انخراطها وتفاعلها الدائم الملموس في الحياة الاقتصادية والاجتماعية وانعكاسها في سلوكها السياسي.
في هذا المقال سنتطرق إلى الجانب الفلسفي لمفهوم اليسار وتعبيراته وآلية اتخاذ مواقفه بين المعيار والناظم له وموقعه ودوره في إطار الظواهر السياسية وتفاعله مع القوى المحركة لها. لنتفق أن الناظم لحركة اليسار هو موقفه الدائم من قضايا العدالة الاجتماعية في بعدها القانوني من تعميم قيم الحرية والمشاركة وتوزيع الخيارات المادية واحترام القيم الانسانية للطفل والمرأة والعمال والعاملات وحقوقهم في التعليم والصحة والغذاء ومناهضة التمييز القائم على أساس العرق أو المعتقد او الدين او اللون او الجنس واحترام الحقوق الاقتصادية والبيئية والعلمية أو استخدام العقائد الدينية أو الفكرية كاداة للاضطهاد الإنساني بكل أشكاله آخذين بعين الاعتبار التطورات العلمية التكنولوجية المتسارعة والعميقة التي حدثت وما زالت تتقدم باضطراد و تأثيرها العميق على قوى الإنتاج موقعها وتأثيرها في عملية التغيير الاجتماعي حيث حل الروبوت الآلي مكان آلاف العمال ناهيك عن التقدم الذي حدث في التبادل المعلوماتي من حيث الزمان حيث يتطلب عنوان مثل الصراع الطبقي إعادة قراءة من حيث تصنيف الطبقات وتعارضها وتناقضات مصالحها.
فيروس كورونا وغيره من الفيروسات والميكروبات وضع البشرية أمام تحديات مصيرية جديدة وفرض حدودا جديدة بين المجتمعات الفقيرة والغنية وأصبح تناقض الفقر والغنى بمعناه الشامل (الاقتصادي والمعرفي ) هو الذي يحكم العلاقات الإنسانية .هذا التناقض الذي تعمق من خلال امتلاك الوسائل المتقدمة (Digital) كوسيلة لتحقيق مكاسب مالية وعلمية هائلة في زمن قياسي. هذا العامل الجديد فرض واقعا تبادليا متعدد الاشكال والاساليب يلعب فيه رأس المال المالي عاملا رئيسيا مقررا في انتقال الثروات المادية وتمركزها في إطار عدد محدود من البشر يتحكمون بالموارد البشرية والمادية.
بالإضافة إلى وقائع اجتماعية جديدة على قوى اليسار ان تعيد قراءة انعكاسها على التغيرات الاجتماعية و اصطفاف القوى وتحالفاتها وانتقال فئات اجتماعية لمواقع جديدة في لوحة توزع القوى ودورها السياسي وموقعها في عملية الإنتاج الاجتماعي حيث تراجع الدور الإنساني المباشر في عملية الإنتاج لدور الآلية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات (حسب رأي ابني أن علينا تغيير شعار يا عمال العالم اتحدوا إلى شعار يا روبوتات وكمبيوترات العالم اتحدوا) .
كل هذا سيكون له تأثير عميق في كافة المجالات و خاصة الحربية منها حيث بدأ عصر حروب الروبوتات التي توضح في أحدثها حيث حسمت الروبوتات معركة (كاراباخ) . هذا يفرض تطوير معيار اليسار تعريفه من حيث سلوك ومواقف قواه التي تساهم بشكل فعال في تعميق المحتوى القيمي للسلوك الإنساني الذي يعتمد قيمها في نضالها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي والعلمي وسيكون العنوان الحقوقي الانساني القانوني عنواناً رئيسياً لنضال اليسار وقواه بعناوين مثل الحرية والعدالة والمشاركة التي من الممكن أن يستثمر التقدم التكنولوجي في المشاركة من خلال تعريف الهوية الشخصية الكترونيا وعنوان مثل البيئة يجب ان يحظى بأولوية لأهميتها الملحة في التعامل مع متطلبات الحفاظ على عناصر الحياة البيئية والإنسانية.
أما عنوان مواجهة الجرائم بحق الانسانية التي ترتكب من خلال توسيع استخدام الروبوتات والدرونات في الأعمال الحربية والاغتيال خارج إطار القانون مما يعوق المسؤولية القانونية المباشرة في تحديد المسؤولية عن الانتهاكات والجرائم بحق القيم الإنسانية والبيئة يجعل مهمة وضع إطار قانوني لاستخدامها مهمة ملحة لقوى اليسار .
كل هذه المعطيات تؤكد صحة الأسس المعرفية لليسار فهو الفكر الذي يعتمد قوانين الديالكتيك المادي في قراءة وتفسير الظواهر الاجتماعية هذا الفكر الذي يحمل خصائص تطوره الدائم لانه يتطور لكونه يعكس الواقع المادي بحركته الدائمة وتطوره ومدى اكتساب وإدراك خاصية قوانينه يمكن قوى اليسار من التعاطي مع التحديات بكافة جوانبها بعيداً عن الارتجالية والرغبة الفردية واسقاطاتها على الواقع .
الناظم والمعيار هو مدى قدرة القوى على إدراك العلاقة بين (الملموس -المجرد- الملموس ) أي قراءة الواقع بصورة جدلية في إطار حركته وتطوره آخذين بعين الاعتبار المتغيرات التي تطرأ في كل لحظة من حيث زمانها ومكانها واعادة انتاجها برؤية تسهم في تطوره وتعتمد قيم العدالة الإنسانية والبيئية كناظم وسلوك القوى في تطبيقاتها كمعيار. إن مدى قدرة الالتزام الواعي بالناظم والمعيار يحدد تصنيف القوى والأحزاب والأفراد على أنهم يساريون.
اليسار لا يقيم كما يقيم الجنس كذكر وأنثى أي يكتسب الطابع المطلق للصفة أو لا يمكن الذهاب إلى الطبيب وطلب منه كتابة وصفة موقف يساري لصرفها من الصيدلية لهذا يمكن أن تكون يساري في الموقف السياسي ولكن في السلوك الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والبيئي يمينيا على سبيل (مثل الشيوعي الذي يعلن التزامه بالفكرة ولكن عندما يتعلق الأمر في توزيع الميراث يصر على المبدأ الديني في التوزيع ويحرم أخواته وأمه من التوزيع العادل الميراث بناء على حقوق المساواة الذي يسعى فكره لتحقيقها) هذا كمثال وليس للحصر.
اليسار كمفهوم معرفي يتسم بتعددية جوانبه الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والقانونية والسياسية وامتلاك أحد هذه الخواص دون الاخرى لا يعكس تصنيف القوة او الفرد على انه يساري بل يمكن تصنيفه على أنه موقف يساري في الجانب المحدد الذي عبر عنه. اليسار كمشروع (ثقافي،اقتصادي،سياسي،اجتماعي،بيئي) يسعى لتحقيق كل هذه الجوانب من خلال خطة تحمل أهداف بعيدة وأهداف قريبة محددة لإنجاز هذه المهام من خلال تعميم العدالة الاجتماعية وحرية خيارات المجتمعات والأفراد والمشاركة الواعية للقوى الاجتماعية عبر ممثليها وحمايتها من خلال القانون الذي يجب أن يطبق على الجميع بشكل عادل ومتساوي.
القانون الذي يحمل عدالته كناظم ومعياره احترام تطبيقه بشكل عادل على الجميع كمجموعات وأفراد بغض النظر عن موقعها السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي. وفي سياق مفهوم اليسار بالضرورة يجب التطرق إلى مفهوم الظاهرة والحالة والضرورة والصدفة والعام والخاص والوحيد. الظاهرة تحمل في جوهرها الحالة أو مجموعة من الحالات التي تعبر عن القوى وتعارضها وتسارعها في إطار الظاهرة والضرورة التي فرضت تشكل الحالة الجادة من أجل التغيير الإيجابي التقدمي للظاهرة وتقدمية الظاهرة الاجتماعية أو مرجعيتها تعكسها محصلة القوى الداخلية التي تتصارع بين رؤيتي اليمين واليسار وميزان القوى الذي يحكم صراعهما في اليمين واليسار يحكمها قانون وحدة وصراع الأضداد (المتناقضات) كما السالب والموجب قانون الفعل ورد الفعل في الرياضيات والفيزياء. أما الحالة المتشكلة عبر تأثير الظاهرة العامة على الظاهرة الخاصة ودور الوحيد الفرد في إطار الظاهرة الخاصة الذي يشكل حالة مؤثرة في تطور الظاهرة (سلباً او إيجاباً) بحكم موقعه وتجربته ووعيه وإدراكه لدوره في إطار تطوير الظاهرة او اعاقته لتطويرها.
هنالك حالات وطنية فردية وجدوا أنفسهم بالصدفة في إطار الظاهرة اليسارية في مرحلة التحرر الوطني نتيجة لعوامل وظروف خاصة أصبح لهم دور مؤثر نتيجة احتدام الصراع واستقطاب القوى في إطار الظاهرة وغالبا ما كانت وتكون هذه الحالات لا تملك مؤهلات الوعي المعرفي لتحديد دورها وغالبا ما تكون هذه الحالات مقررة في ميزان القوى الداخلي في إطار الظاهرة و اصطفافها يكون ناتج عن عدم وعي لدورها وأهميته وتأثيره على تطور الظاهرة ومنها من تدرك دورها الذي ينم عن وعي منفعي فردي وفي حال تعارضت المنفعة مع الموقع تغادر الظاهرة ومن الممكن أن تستثمر في تجربتها الخاصة في إطار ظاهرة نقيضة ليشكل اصطفافها الجديد عاملا مضرا في الظاهرة الأصل (انتقال البعض إلى الفكر الديني والليبرالي.
وحالات زرعت في إطار الظاهرة عن وعي لتشكل في الإطار العام دورا كابحا لتطور الظاهرة وهذه أخطر الحالات لكونها تملك وعي ودعم مادي من قوى خارجية تريد تقويض الظاهرة من داخلها وهذا يخص القوى والمجتمعات والدول والتنظيمات ودائما ما تحمل هذه الحالات صفة تآمرية من حيث الدور والفعل على الظاهرة وعلى القضية الوطنية.
أما عن التناقضات التي تحكم الظاهرة فهي تأخذ شكلين داخلي وخارجي، الداخلي بين اليمين واليسار في إطار الظاهرة ويبقى المظهر العام للظاهرة يسارياً ما دامت محصلة القوى التي تتصارع في داخلها تعكس المواقف اليسارية وأدوات معرفتها ووسائلها وفي بعض الحالات ونتيجة واحتدام الصراع مع الظواهر الخارجية تتراجع قوى المحركة لليسار في داخل الظاهرة ليتحول موقفها لليمين ويكون أحياناً بفعل تأثير البنية اليمينية للمجتمع وانعكاساته على السلوك لبعض مكونات الظاهرة أو خارجي على سبيل المثال لا الحصر تأثير البترودولار على الظاهرة الفلسطينية والعربية.
في الحالة الكوبية و البوليفارية استطاع اليسار من حسم الصراع داخل الظاهرة اليسارية وحقق انتصارات تاريخية للتحرر الوطني والاجتماعي. في الحالة السوفييتية انتصرت قوى اليمين بالرغم من البنية الاجتماعية اليسارية للمجتمع ولكن الدور الذي لعبه بعض الأفراد في إطار الظاهرة اليسارية من تآمر عليها بمساندة القوى الخارجية أدى إلى تراجع حركة اليسار بالاضافة إلى تحويل الدور القيادي للحزب إلى دور بيروقراطي في ادارة الدولة وتحويل المركزية الديمقراطية إلى مركزية بيروقراطية ادت إلى افراغ دور الحزب السياسي وكبح الصراع الداخلي في إطار الظاهرة مما أدى لتقوية نفوذ القوى اليمينية المعادية التي وظفت النقمة على الفساد إلى نقمة على الفكر اليساري التقدمي واجهضت المكتسبات الانسانية التي حققتها ثورة اكتوبر.
في الحالة الشرق أوسطية أخفق اليسار في قراءة التجربة التاريخية للمنطقة ودور الموروث التاريخي في تبلورها وغَيَب دوره في التكوين الثقافي والنفسي والاجتماعي والتاريخي. ولم تحظى بجهد لإعادة قراءة مادية للفكر الديني بصورة نقدية إيجابية لإبراز الجوانب الثورية فيه من خلال قراءة ضرورته التاريخية في زمانه ومكانه والقوى المتصارعة داخل الظاهرة الدينية. وأخص المسيحية والإسلام لدورهما في مواجهة الظروف والقوى الرجعية في زمانهما ة(التي تمثلت في عنصرية استعلائية الفكرة اليهودية التي كان محركها ومنشأها فكرة المرابي الاستغلالي ) .
التحولات التي طرأت على الفكر الديني ودور الاستعمار في مساندة أكثر الاتجاهات رجعة فيه في محاولة دائمة لا بقاء هيمنة التخلف والتبعية وإجهاض ومحاربة أية إمكانية لتطور الفكر الوطني التحرري الديمقراطي. الفكرة التي حكمت بعض القوى في نسخ التجارب العالمية وفكرها ووسائلها الخاصة أدى إلى تغييب الدور الخاص للظواهر اليسارية في منطقتنا (حتى درج المثل القائل إذا أمطرت في موسكو يحملون المظلات في منطقتنا في اشارة إلى التبعية)، بالطبع هذا مثل أطلقته القوى اليمينية للتحريض على اليسار الذي كان يغيب الخصوصية التاريخية للمجتمعات في المنطقة. باستثناء تجربة وحيدة قُبِرَت في مهدها هي تجربة الحزب الشيوعي السودان ي الذي تكالبت القوى اليمينية على إنهاء أكثر الحالات وعيا وتأثيرا في الحركة الديمقراطية اليسارية الذي مثلها كل من عبد الخالق محجوب والشفيع ورفاقهم.
في الحالة السورية كانت حالة فرج الله الحلو الذي أذيب بالأسيد تشكل حالة متقدمة من أجل وحدة الشيوعيون في سورية ولبنان. الحالة اليسارية الفلسطينية الأبرز كانت حالة غسان كنفاني الحالة الوطنية الديمقراطية الشاملة التي فُجّرَت من قبل الموساد الإسرائيلي لكبح تأثيرها على تطور الظاهرة الوطنية الفلسطينية المعاصرة. أما في اطار حركة فتح فكان اغتيال كل من كمال ناصر والعدوان والنجار وماجد أبو شرار وغيرهم الذين شكلوا حالة وطنية متقدمة في إطار الصراع داخل حركة فتح بين اليمين واليسار.
حاتم استانبولي
كاتب صحفي – فلسطين