على ضفاف المتوسط، وفي المدينة الساحلية الأحب لقلبي (غزة)، توجّهت صباحًا إلى المقهى المفضل لي “الباقة” لأنعم بقسط من السلام -المزيف- وسط ضوضاء المذبحة التي نعيشها منذ قرابة العامين.
دخلت المقهى وأنا ألقي التحية على جميع من يعمل في المكان، على الوجوه التي أراها كل يوم.
أخبرت (عاطف) “صباح الخير”، مررت بالبار وطلبت مشروبي المعتاد فرأيت “حمص” يحمل كيسًا مليئا بالبسكويت -وهو العملة النادرة في ظلّ المجاعة الراهنة التي تقاسيها البلاد- عرض عليّ بضعًا من البسكويت فرددته ممتنة جزيلًا لكرمه الذي يغدقه علينا دومًا، فطفله الصغير هو الأولى بهذا الطعام.
أردت الجلوس على طاولتي المعتادة، إلا أن (فرانس) و (إسماعيل) كانا قد سبقاني إليها، فجلست بطاولة مجاورةٍ لهما. كانا يصوران فيديو لكلمة سوف يعرضها (إسماعيل) في أحد معارضه التي تجوب العالم. كانت (فرانس) تحادثني وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة عرضها السماوات والأرض، بطلّتها البشوشة دومًا، وكان (إسماعيل) أنيقًا يومها أكثر من المعتاد، فتوجهت له ممازحةً:
“ملياان مصاري ياعمي!”
فأجابني ضاحكًا:
“أنا غلبااان!”
تبادل ثلاثتنا الحديث وأخبروني أن الطاولة اليوم لهم لأن الإضاءة في تلك البقعة جيدة للفديو، ضحكنا سويًا ثم تركتهم ليكملوا تصويرهم.
بجواري، جلست ثلاث فتياتٍ هن زبائن أراهم بشكل معتاد في المكان، تبادلنا الابتسامة وأثنيت على قميص إحداهن كونه مطرزٌ بطريقة فلاحية فلسطينية جميلةٍ للغاية. بين الفينة والأخرى كانت تفلت من إحداهن ضحكة من هو محاطٌ بأحبته.
على الطاولة المقابلة لي، جلست صديقتان في مطلع العشرين، بدا عليهما هدوء ما بعد المعركة، بجانبهما كانت هدية مغلفة ضخمة للغاية -دبدوب- تكاد تفوقهما طولًا. تبيّن لاحقًا أنها هدية صلح فيما بينهما بعد أن خاضتا مشاحنة انتهت في تلك الجلسة.
التقطت هاتفي وتصفحت بعض الأخبار ليقاطعني (هادي) معاتبًا:
“أنا زعلان منك يا خالتو كيف بتمرقي بتصبحيش عليا!”
لأرد بأن:
“حقك عليا يا خالتو والله ما شوفتك. صباح الخير يا هادي!”
ضحك مميلًا رأسه كمن قبِل الاعتذار، وتابع عمله في المقهى.
أمسكت كتابي، وهو كتاب نقدٍ أدبيّ لعبد الرحمن منيف، يتحدث فيه عن أهمية الذاكرة الأدبية، وكيف من الضرورة بمكان عدم تخطّي منتوجات كاتب ما بعد موته، فالأدب هو هويّة جمعية، والكاتب -بحضوره أو غيابه- هو جزءٌ من تأريخ هذه الهوية وتوثيق الثقافة السائدة في مجتمع معين في فترة زمنية محددة.
تابعت قرائتي إلى أن وصلت لمنتصف الكتاب، حيث تحدث (منيف) عن دور (غسان كنفاني) في تأريخ الهوية الجمعية الفلسطينية، وكيف كان ل “عائد إلى حيفا” أكبر الأثر في ذلك الوقت في التأكيد على ضرورة أن الوطن هو ليس الماضي فحسب، ولا يمكن الارتكاز على ما كنا نملك فقط، بل هو الحاضر الذي نعيشه ونصارعه من كل صوب، وهو المستقبل الذي يجب أن نبذل له جل قوانا لننال حقوقنا المنتزعة دومًا في عالم أشار له بأنه “عالمٌ ليس لنا”.
في قرابة الثالثة إلا ربع مساءً، حضر صديقي (محمد أبو شمالة) وكنت قد رأيته آخر مرّة منذ قرابة الشهرين، فوضعت كتابي جانبًا وجلسنا نتبادل أطراف الحديث، ولم يطل الحوار إلا لعدة دقائق حين قاطعته مشيرةً للبحر:
“الزوارق الحربية قريبة جدًا اليوم”
أشحنا نظرنا عنهم لاحقًا معتقدين أنه تمشيط عسكري معتاد رغم قربهم غير المعتاد من الشاطئ، واسترسلنا حديثنا ثانيةً بسؤالي له:
“أبو شمالة شو بلدكم؟”
ليرد علي:
“بيت دراس”.
كانت كلمة “بيت دراس” آخر كلمة سمعتها قبل أن تُثقب أذني وأجد نفسي ملقاةً على الأرض مع صرير حاد داخل رأسي ودم يغطي وجهي. لم أدرك تمامًا ما حصل في الثواني الأولى؛ لكن غريزة البقاء دفعتني للزحف أسفل الطاولة الأقرب لي، لأجد محمد يلقي بنفسه ورائي ما جعله يتلقى شظايا كانت ستسقر في جسدي بدلًا من جسده.
حاولت كبح جماح فضولي -الذي سيتسبب في موتي يومًا ما- لكنني لم أستطع ورفعت رأسي لأرى ما يحدث، فداهمتني موجةٌ مليئةٌ بالشظايا التي وجدت لها مستقرًا في وجهي الذي بدوره غرق بالدماء.
أزحت رأسي يسارًا لأجد محمد يتقلّب مكانه، نظرت ليميني فوجدت قدمًا فارقت بقية جسدها، على بعد نصف متر كانت فتاة تحاول الزحف وهي تنظر لعيناي محاولةً أن تقول شيئًا إلا أنها فارقت الحياة بعد ثواني دون أن تخبرني بكلماتها الأخيرة.
تمالكت أعصابي، أخذت نفسًا هو الأطول في حياتي، ثم ذهلت فور وقوفي على قدماي، رأيت جميع من هم حولي غارقين في دمائهم، لم أستطع رؤية أحد يتحرك. توجهت نحو (محمد) لأطمئن عليه فأخبرني أنه بخير لكن قدمه تنزف، كلماته طمأنت قلبي إلا أن هذه الطمأنينة انتُزعت فور نظرت إلى طاولة (فرانس) و (إسماعيل) لأجدهما قد فارقا الحياة.
حاولت أن أقرر ما هي خطواتي التالية فلم أعرف ما يمكن فعله سوى البحث عن هاتفي وسط هذا الدمار لأطلب الإسعاف.
في غضون دقائق، حضر المئات لانتشال الشهداء وإجلاء الجرحى، كنت أسير في ذات البقعة على غير هدىً، لم أعِ أنني قد أصبت إلا عندما وجدت حقيبتي وصرخت ألمًا فور حملتها على كتفي. أخبرني أحدهم أن رأسي ينزف ويجدر بي التوجه للإسعافات التي وصلت للتو.
مشيت بخطىً هي الأبطئ، ومع كل خطوة كان قلبي يعتصر ألمًا، لا من ما أصبت به من شظايا، بل من هول المشهد. مشهد رؤية جثامين أشخاص كنت قد تمنيت لهم صباحًا خيّرًا، زملاء وأصدقاء، بل وعائلة.
في طريقي للمشفى، شعرت بعجزٍ لا يفهمه إلا الغزي، عجزُ من لم يستطع إنقاذ من يحب.
حافظت على قواي إلى أن وصلت المشفى ورأيت وجه أمي محاطةً بأصدقائي، فسمحت لجسدي بأن يهوي.
قوات الاحتلال الإسرائيلي شنت غارة جوية يوم الاثنين قرابة الساعة الثالثة مساءً على مقهى الباقة على شاطئ مدينة غزة ما تسبب في مجزرة شنيعة ارتقى إثرها عشرات الشهداء وأصيب العديد.
الرحمة لأرواح إسماعيل أبو حطب، فرانس “آمنة” السالمي، عاطف الباقة، حمص “مصطفى” أبو عميرة، هادي و معتز أبو دان. الرحمة لأرواح الصديقتين اللتان حلّا خلافهما في آخر ساعات حياتهما. الرحمة لأرواح الفتيات اللائي كنّ يجلسن بجواري. الرحمة لأرواح كلّ من فارقوا الحياة في هذا اليوم.
السلامة لمحمد أبو شمالة، وسمعة “إسماعيل” الجاجة، السلامة لجميع من أصيبوا بجراح جسدية قد تشفى، ونفسية ستلازمهم أبد الدهر.
الرحمة لأرواح الشهداء،
الشفاء للجرحى،
الصبر لقلوب ذويهم ومحبيهم،
واللعنة، كل اللعنة، على الاحتلال.
مقهى الباقة، مدينة غزة، فلسطين المحتلة مؤقتًا
30 حزيران 2025