قد يكون من الضروري الحديث عن الرجعية العربية في سياق الابادة الجماعية الجارية في فلسطين، لما لها من عوامل مباشرة وغير مباشرة في استمرار الابادة. في الحقيقة، ما يحدث في فلسطين يتجاوز ما يمكن وصفه بالابادة الجماعية، ما يحدث هو اجتثاث ومحو كامل للشعب الفلسطيني، انه هجوم على الماضي والحاضر والمستقبل.
أي انسان تريدان؟
عند الحديث عن الرجعية العربية، لا بد وان تبرز كل من السعودية و الامارات كعناوين رئيسية لهذه الرجعية. وفي هذا السياق، من الضرورة بمكان أن يتم النظر الى ما هو ابعد من الحدود الجغرافية، بمعنى أن اثر تلك الرجعية بات عابرا للحدود. كلا النظامين يعمل على صياغة خطاب وممارسة من شانهما ليس فقط التقليل من الابادة الجماعية، بل التقليل من قيمة الفلسطيني كإنسان.
السعودية و الامارات -دول الخليج عموماً- تعتمد سياسة هندسة اجتماعية من شأنها خلق انسان طيع تجاه النظم الحاكمة، وتزعجها فكرة وجود شعب مقاوم على مسافة غير بعيدة عنها، ولانها لا تمتلك نفس الادوات المحلية التي تمكنها من القيام بتلك الهندسة الاجتماعية تستخدم أدوات أخرى.
خلال الابادة اطلقت الإمارات حملة “الفارس الشهم” لاغاثة غزة، وهي تسمية تعبر عن عقلية رجعية من جهة وعن مناكفة سياسية من جهة أخرى. الفروسية كتعبير عن جزء من تاريخ المنطقة والتي كان من المفترض ان تعبر عن الشجاعة، ولكن في حالة الامارات فانها تعبير عن عقدة نقص لنظام تابع منصاع للارادة الامبيريالية. كما أن في تلك التسمية تحد للشجاعة الحقيقة ، كما لون ان النظام الامراتي يريد نقل رسالة مفادها “الشجاعة في التطبيع”! وتبدو مناكفة سياسية قذرة، أمام شعب مجوع.
معنى التطبيع
لم –ولن- يستخدم النظام السعودي أياً من أدوات الضغط السياسية والاقتصادية التي يمتلكها لوقف الإبادة الجماعية، بل يضع كأولوية شرط التطبيع مع الكيان الصهيوني للحصول على ضمانات أمنية أمريكية وللوصول إلى تكنولوجية نووية. بكلمات أخرى، فإن النظام السعودي ينتظر ما يُمكن أن تُسفر عنه هذه الإبادة للمضي قُدماً في التطبيع، بغض النظر عن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
أما عن النظام الإماراتي المُطبع وبشكل مُعلن، فإن سياسته تُبرز ما هو التطبيع فعلاً، فلا يعني التطبيع مُجرد اتفاقيات اعتراف مُتبادل واتفاقيات اقتصادية. بل يعني إعطاء شرعية لوجود الاحتلال واستمراره وجرائمه، حتى لو تعدت الإبادة الجماعية. كما يُلاحظ دورٌ للإمارات التي ترتبط بعقود طويلة الأجل مع إحدى الشركات الصربية المصدّرة للسلاح، ما يعزز من احتمالات مساهمتها في دعم الإمدادات العسكرية الإسرائيلية خلال الإيادة. وإلى جانب ذلك، فإن استضافة الإمارات لمعارض دفاعية شاركت فيها شركات أسلحة إسرائيلية تمثل دعماً مباشراً لمنظومة عسكرية متورطة في جرائم إبادة وعمليات قتل وتدمير واسعة النطاق في قطاع غزة.
السردية الصهيونية بلغة عربية
في الحديث عن الدور الرجعي لكُل من النظامين السعودي والإماراتي من الضرورة بمكان الإشارة إلى الدور الدعائي، والذي لا يقتصر فقط على وسائل الإعلام التقليدية مثل قناتي العربية وسكاي نيوز، اللتان تروجان للرواية الصهيونية وتقومان بتغطية إعلامية تنتقص من حجم الكارثة ومن إنسانية الفلسطيني وتاريخه النضالي. تشمل الدعاية أيضاً رجال الدين الذين يسعون لإيجاد أي مبرر ديني يمنع من التضامن مع القضية الفلسطينية. كما أنّ “مؤثرين” في وسائل التواصل الاجتماعي يقومون بالترويج للسردية الصهيونية.
هذه السردية لا تنحصر في الحدود الجغرافية التي يحكمها النظامين السعودي والإماراتي، بل تمتد وتتسرب إلى خطابات محللين وكُتاب سياسيين وصحافيين من جنسيات عربية مختلفة. ونتيجة ذلك ليست بالشيء العرضي، بل إنه يمُس السردية الفلسطينية حول حدث جار وهو الإبادة الجماعية، بمعنى أنّ ترديد السردية الصهيونية باللغة العربية يُعفي الاحتلال من مسؤوليته عن الإبادة والجرائم وعن كونه احتلال استعماري. كما تُساهم في منع مُحاسبة الاحتلال سواء على نطاق إقليمي أو دولي.
ما هو موقع النظامين الإماراتي والسعودي؟
المسافة الجغرافية بين فلسطين والنظامين السعودي والإماراتي ليست بالبعيدة، ولكن المسافة بين الرجعية والتقدمية فهي قطعاً ليست بالقريبة. تُمثل فلسطين واحدة من واجهات التصدي للمشاريع الإمبيريالية والاستعمارية في العالم، بينما يعمل النظامين السعودي والإماراتي على خلق منطقة تابعة للإمبيريالية وقائمة على الجرائم والصراعات، كما تفعل السعودية في اليمن والإمارات في السودان. بالإضافة إلى دور النظامين في دعم الحركات الإرهابية على امتداد المنطقة العربية.
إن الإبادة الجماعية المُستمرة في فلسطيم شكلاً مدخلاً لإعادة إنتاج المشهد السياسي ليس في المنطقة العربية فحسب، بل في العالم ككل، بنمظوماته السياسية والاقتصادية والقانونية والأخلاقية. وأمام هذا التخاذل والتواطئ لا بُد من تسليط الضوء على كل من ساهم في السماح لهذه الإبادة بالحدوث واستمرارها. كما أنّه من الضروري دوماً التأكيد على مسؤولية الكيان الصهيوني الأولى والمباشرة في هذه المذبحة، ومن الضروري أنّ لا ينسى العالم، ليس فقط وقف الإبادة ما هو مطلوب، بل مُحاسبة وإنهاء الاحتلال.
بهاء غسان