بقلم: ريكاردو محرز موفدي – الاتحاد الفلسطيني في أمريكا اللاتينية (UPAL)
في الأسابيع الأخيرة، أعلنت عدة دول مثل إسبانيا والنرويج وإيرلندا وسلوفينيا وغيرها عن اعترافها الرسمي بدولة فلسطين. بالنسبة للبعض، يُعتبر هذا حدثاً تاريخياً، وللبعض الآخر، هو انتصار معنوي بعد عقود من الاحتلال والمعاناة.
لكن خلف هذه الإعلانات الدبلوماسية يكمن منطق استراتيجي وجيوسياسي معقد. والسؤال الجوهري هو: ما المصالح الحقيقية الكامنة خلف موجة الاعترافات هذه؟
دولة فلسطينية… أم مخرج لأوروبا والغرب؟
أولاً، يجب أن ندرك أن هذه الاعترافات لا تأتي من فراغ. إنها تحدث وسط حرب إبادة ضد غزة، فشلت فيها إسرائيل في القضاء على المقاومة الفلسطينية، خاصة حركة حماس. لا القصف، ولا الحصار، ولا التهجير القسري، نجح في كسر إرادة شعب يقاوم بكرامة.
أمام هذا الفشل، تسعى الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وأوروبا، إلى “الخطة ب”. لم يعد بإمكانهم الاستمرار في ترديد خطاب “الدفاع عن النفس الإسرائيلي”. فهم يحتاجون إلى بديل يحافظ على نفوذهم، ويُضعف المقاومة، ويهدئ الضغط الشعبي المتصاعد في شوارعهم.
وهنا يظهر الاعتراف بـ”دولة فلسطين”.
لكن الخدعة تكمن في أن الدولة التي يعترفون بها لا تملك حدوداً، ولا جيشاً، ولا سيادة على أراضيها. لا تسيطر على أجوائها ولا مياهها، ولا تستطيع حماية شعبها، ولا تتمتع بوحدة سياسية. إنها، في الحقيقة، مجرد كيان إداري تحت الاحتلال. وهذه ليست دولة حقيقية.
تلميع صورة أوروبا
الاعترافات هذه تُستخدم أيضاً لـتلميع صورة أوروبا. فبعد أشهر من التواطؤ مع الإبادة الجماعية – بالصمت، أو الدعم العسكري، أو حتى العقوبات الانتقائية ضد المقاومة – تحاول الآن تحقيق توازن رمزي.
يتحدثون عن “حل الدولتين” وكأنها لا تزال ممكنة، رغم أن إسرائيل مزّقت الأرض واستعمرتها حتى صارت الفكرة غير واقعية.
يعترفون بـ”دولة فلسطين” لكنهم لا يفرضون عقوبات على إسرائيل، ولا يوقفون بيع السلاح لها، ولا يعرقلون توسع المستوطنات. بمعنى آخر، إنهم يعترفون بدولة فلسطينية دون تغيير الواقع المادي للاحتلال.
هل الهدف الحقيقي هو استبدال المقاومة؟
هناك أمر مقلق آخر: هو الطرف الذي يتم الاعتراف به. فمعظم هذه الدول لا تزال تعتبر السلطة الفلسطينية “الممثل الشرعي” للشعب الفلسطيني، رغم فسادها وفقدانها للشرعية وتنسيقها الأمني مع الاحتلال.
هل نحن أمام محاولة لـإعادة تشكيل القيادة الفلسطينية من الخارج، واستبعاد حركات المقاومة مثل حماس والجهاد الإسلامي؟
هل يسعون إلى بناء دولة فلسطينية شكلية، مطيعة، تدير الاحتلال بدلاً من مقاومته؟
إن كان الأمر كذلك، فموجة الاعترافات هذه ليست تضامناً حقيقياً، بل مناورة جيوسياسية لتحييد نضال الشعب الفلسطيني.
فخ الدولة الوهمية
الخطر الكبير يكمن في أن يبدأ العالم بالتعامل مع فلسطين كـ”دولة معترف بها”، بينما هي في الواقع لا تزال محتلة، مستعمرة، ومحاصرة.
هذا الاعتراف القانوني قد يُستخدم لـتجميد الصراع، وإسكات المطالب الدولية، وتحميل الضحية مسؤولية الاحتلال.
في هذا السيناريو، يتم تحويل القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني من الاستعمار إلى نزاع إداري بين “دولتين”.
يُمحى التاريخ، ويُطمس نظام الفصل العنصري، وتُسكت أصوات الشهداء.
الخلاصة
موجة الاعترافات ليست مجانية، ولا بريئة، ولا ثورية. إنها جزء من إعادة ترتيب المشهد السياسي الدولي بعد الانكشاف الأخلاقي للغرب وتصاعد المقاومة الفلسطينية.
قد تكون مفيدة دبلوماسياً، نعم، لكن علينا أن لا ننخدع: التحرير الحقيقي لن يأتي من وزارات الخارجية، بل من إصرار الشعب الفلسطيني في غزة والضفة والشتات.
ما لم يتم تفكيك النظام الصهيوني للاحتلال، فلن يكون هناك اعتراف كامل.
وما دامت الدماء تنزف في غزة، فلن يكفي أي اعتراف رمزي.