في يوم الأحد العاشر من أغسطس (آب) دقت الساعة في كل المدن والبلدات اليونانية في أكثر من ١٠٠ موقع برفع العلم الفلسطيني والتظاهر والهتاف “تحيا فلسطين حرة” “لا للصهيونية في بلادنا” عشرات ومئات وآلاف في مشهد دق أيضا أجراس الخوف في أذن الحكومة اليونانية وأذن حلفائها الصهاينة لينذرهم إن الشعب اليوناني يرفض أن يكون جزءً من هذا الجرم أو شريكا في حرب الإبادة الجماعية التي ينفذها مجرمو الحرب الصهاينة على أرض فلسطين وأن موقع الشعب اليوناني في التاريخ واضح وضوح شمس أرضه في آب إلى جانب الحق الفلسطيني؛ بل وأبعد من ذلك أنه مستعد أن يكافح ويناضل من أجل ذلك. 

لم يكن هذا الناقوس أول جرس يقرع بل كان تباعا لأجراس تدق بحراك مستمر وآخذٍ في النمو منذ أشهر طويلة ليس فقط في تظاهرات تضامنية مع الشعب الفلسطيني الذي يقاوم حرب الإبادة بل أيضا في تظاهرات غاضبة في الموانئ وساحات المدن وأي مكان يدنسه الصهاينة أو ينالوا فيه دعما لهم والتي كان من أواخرها منع نقل الحاويات التي تحتوي على موادكانت ستستخدم في صناعة الأسلحة الصهيونية إلى السفن المتجهة للكيان الصهيوني ومنع سفن “السياح” الصهاينة من أن ترسو في موانئ المدن والجزر اليونانية كسياح يريدون أن يستريحوا في مهلة قصيرة من حرب الإبادة التي أمعنوابصنع أبشع الصور والأفعال فيها، فيهتف اليوناني “ليس باسمنا، وليس على أرضنا، السياحة ليست محايدة، والتضامن ليس جريمة – إنه إنسانية وواجب تجاه التاريخ!”

خلال الشهر الماضي، وتحت شعار “لا ضيافة لمجرمي الحرب” اجتمع المتظاهرون اليونان وهتفوا “لن نسمح بأن تصبح الإبادة الجماعية “أمراً عاديا” ولن نسمح لمرتكبيها بالتظاهر بأنهم سياح” وكانت هناك احتجاجات ضد السفن السياحية الصهيونية التي كانت تقل جنودًا صهاينة ومستوطنين مؤيدين للإبادة الجماعية بصفة “سياح”. كانت الاحتجاجات الأكثر نجاحًا في جزيرة سيروس حيث تمكن السكان المنتفضون من منع السفينة السياحية الصهيونية من الرسو، مما أجبرها على مغادرة الميناء. وبعدها في رودوس، تجمع السكان في الميناء لمنع سفينة سياحية تقل الصهاينة وقوبلوا بقمع الشرطة اليونانية وعاصفة من التشهير من الحكومة ووسائل الإعلام التابعة لها، التي وصفت الاحتجاجات بالوصفة السحرية الصهيونية إنها “معادية للسامية” في محاولة بائسة لتجريم التضامن ونزع الشرعية، ولكن تلاها في أجيوس نيقولاس في جزيرة كريت، رسالة واضحة: “مؤيدو ومرتكبو الإبادة الجماعية في غزة غير مرحب بهم” والتي اضطر “السياح”الصهاينة إلى مرافقة من شرطة مكافحة الشغب من أجل “الاستمتاع” بعطلتهم من الإبادة الجماعية المستمرة!

انضم الفلسطينيون واليونانيون إلى المظاهرة في ميدان سينتاغما في أثينا، في العاشر من آب

منذ أشهر عديدة بات من أهم المواضيع الساخنة التي تناقش في السياسة الداخلية اليونانية هي موضوع “السياح” الصهاينة. حيث إن المجتمع الصهيوني الذي بات يستشعر بوادر الخطر وانعدام الأمن للقيام بزياراته السياحية في بلدان قريبة كانت بالنسبة له آمنة قبل أن يشرع في حرب الإبادة المستمرة مثل الأردن ومصر وتركيا، اضطر أن يبحث عن وجهات سياحية جديدة يشعر فيها بأمن أكثر نسبيا. وبهذا أضحت قبرص واليونان أقرب هذه الوجهات السياحية التي يتجه إليها المجتمع الصهيوني بشكل عام والجنود الصهاينة في إجازاتهم من حرب الإبادة المستمر. إن ازدياد “السياح” الصهاينة في اليونان ذلك المجتمع الذي يمتلئ بتاريخ وواقع تضامني مع القضية الفلسطينية أدى إلى ارتفاع النقمة وازدياد الغضب في نفوس اليونانيين ضد هؤلاء الصهاينة من جهة وضد حكومتهم اليمينية التي تقوم بكل ما في وسعها لدعم الكيان الصهيوني ولتشكيل البديل الأقرب جغرافيا عن المطبعين في المنطقة من أجل خدمة الكيان الصهيوني في حرب إبادته بكل ما هو متاح لها. من ناحية أخرى فإن حديث الناس الشاغل في هذا البلد الممتد تاريخه عبر العصور بأن الصهاينة يشترون الأراضي والممتلكات في بلادهم وهم بذلك يستشعرون بخطورة هذا المشهد لما يدركونه من طبيعة المجتمع الصهيوني الاستيطاني الاستعلائي والعرقي الفاشي الذي بات يشكل للإنسانية عبئا تسعى للخلاص منه. وفي ذات الوقت فإن ازدياد الطلب الصهيوني لشراء العقارات أدى لهجرة بعض الفقراء من مراكز المدن نحو أطرافها بعد أن باع أصحابها البيوت للصهاينة مما جعله الشعب اليوناني يستشعر بالخطر نتيجة العلاقة بين رأس المال الصهيوني واليوناني.

كل هذا اجتمع مع عشرات السنين من تضامن مستمر للشعب اليوناني مع الشعب الفلسطيني في قضيته العادلة ليحرك الجماهير من جديد لتلتف حول وعيها الإنساني وتبدأ برفع الصوت عاليا جنبا إلى جنب إلى سواعدها التي ترفع العلم الفلسطيني. وها نحن نرى المئات والآلاف من اليونانيين يتظاهرون في المدن والقرى والبلدات الساحلية والجبلية مجتمعة قلوبهم مع شعب فلسطيني يقاوم الظلم والذل والموت. ليس فقط في الموانئ، بل أيضا في ساحات المدن وليس فقط متظاهرون، بل أيضا نجد مجموعات من المتضامنين (٥٠ إلى ١٠٠ شخص) يلبسون العلم الفلسطيني ويتمشون جماعات في المناطق السياحية يسمونها “الدوريات” ليدب الرعب في “السائح” الصهيوني حتى يفكر مرات ومرات بأن لا يعود إلى هذا البلد. بل وأبعد من ذلك نرى الشعب اليوناني يزين الشوارع وأبواب المحلات وحيطان المطاعم والمقاهي ورسومات الجدران في المدن بالعلم الفلسطيني تارة وبالوجه الملثم بالحطة الفلسطينية تارة أخرى ليحول كل شارع وكل زاوية لأرض معركة؛ معركته ومعركة الشعب الفلسطيني بالحق، ضد الصهيونية وحلفائها.

تُظهر لقطات نُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي احتجاجًا كبيرًا مناهضًا لإسرائيل ومؤيدًا للفلسطينيين، أدى إلى منع مئات الإسرائيليين من النزول من سفينة سياحية في جزيرة سيروس اليونانية، في 22 يوليو 2025.

وإذا ذهبنا أعمق من ذلك في التحليل ونحن نرى أن اليسار اليوناني المتنوع من مشارب فكرية وتنظيمية مختلفة هم من يقفون خلف كل هذا المشهد من ملحمة اشتد وطيسها فإننا نقرأ أسبابها ممتدة في جذور العلاقة بين هذه القوى وقوى الثورة الفلسطينية في السبعينات والثمانينات من جهة ومن جهة أخرى في فكر ووعي هذه القوى التي تحمل في أعماقها الراية الإنسانية في الحرية والعدالة والمساواة. وإن هذه القوى وفي ذات الوقت وهي تناضل في وجه سلطة يمينية تتغول في كل أنحاء البلاد تفقر في أهلها وتحجم من حرياتهم وتجعل من بلدهم بلدا غير مستقل ومربوط من العنق بيد الإمبريالية العالمية؛ تحديدا الولايات المتحدة الأمريكية وصندوق النقد الدولي ورأس مال دول أوروبا الغربية، فإنها ترى وتدرك أن معركتها واحدة مع معركة الشعب الفلسطيني في أرضه. حيث إن هذه الحكومة اليمينية تقوم أيضا بكل ما في وسعها من أجل توسيع دورها في حلف الناتو وفتح أراضيها للمعسكرات الأمريكية والبريطانية إضافة إلى سماحها لجيش الاحتلال الصهيوني بالتحرك في أجوائها والاستفادة من موانئها وساحاتها بشكل مباشر في المعركة أو من أجل التدرب في ساحاتها وعلى أرضها التي تشبه تضاريسها المتوسطية تضاريس أرض فلسطين. ليس فقط ذلك، بل ها هي الحكومة اليونانية تسمح ببيع الموانئ للشركات الصهيونية وبيع قطع أراض واسعة لتتحول إلى منتجعات لاستراحة الجنود الصهاينة أو تتحول في مناطق أخرى إلى كيبوتسات صهيونية لتكون مناطق آمنة للصهاينة. وفي آخر سجل أسود في هذه الشراكة سمحت الحكومة اليونانية لمجرم الحرب الصهيوني المطلوب للعدالة الدولية رأس حرب الإبادة الجماعية المرور عبر أجوائها دون اعتقاله ملقية بذلك في مكب التاريخ بما تعهدت به الدولة اليونانية بالشرعية الدولية. إن الشراكة المتنامية بين السلطة اليمينية اليونانية ورأس المال اليوناني مع الصهيونية ورأسمالها يجعل المعركة الفلسطينية في اليونان معركة مصيرية للشعب اليوناني ويجعل معركة الشعب اليوناني ضد الصهيونية جزء لا يتجزأ من معركته من أجل الاستقلال والحرية من وطأة المركز الإمبريالي الغربي.

وأمام هذا المشهد المتنامي في المعركة الذي بدأ فيه الشعب اليوناني يهز عروش السلطة المتواطئة في حرب الإبادة فها هي السلطة جنبا إلى جنب ممثلي الدولة الصهيونية من دبلوماسيين وسياسيين وإعلاميين ومثقفين وغيرهم يشنون معاركهم من خلال قمع المتظاهرين والإساءة لهم وتركيب اتهامات لا أساس لها للحركة الاحتجاجية، فيقوم الوزراء بالاحتجاج على المتظاهرين متهمين إياهم ب”معاداة السامية” و”أعداء السياحة” الذين يضرون بالاقتصاد اليوناني. وبعد حصار السفينة السياحية في سيروس، أعلنت الحكومة أن من يحاول منع “السياح” الصهاينة من النزول سيتم اعتقاله وتوجيه تهمة “معاداة السامية” إليه بموجب “قانون مكافحة العنصرية” الذي لم تلتزم به الحكومة اليونانية حين سمحت لمجرم الحرب الصهيوني بالمرور عبر أجوائها. وها هي السلطات اليونانية تقمع الاحتجاج باستخدام الشرطة المضادة للشغب والبلطجية المحليينفي رودوس وفي العديد من المدن والجزر اليونانية. 

إن ناقوس الخطر الذي دق أبواب الحكومة اليونانية دق أيضا قلوب الصهاينة المنزعجين من صوت الهتافات ولون العلم الفلسطيني المنتشر في الساحات والشرفات والمحلات والبيوت، فبدوا منفعلين يتشاجرون مع أهل البلد ويشتمونهم ويهاجمونهم دون وعي، ليزيد من احتقان الشعب اليوناني ضد “الضيوف” المتبجحين بعرقيتهم وعنصريتهم ويدهم الملطخة بالدماء. وها هو سفير الصهاينة في أثينا يخرج عن دبلوماسيته منفعلا ليوبخ عمدة المدينة ويتهمه أنه لا يبذل ما يكفي من جهود لحماية مدينته من الأقليات المنظمة ولا يحافظ على نظافة المدينة، مما يجعل السياح “الإسرائيليين”يشعرون بعدم الارتياح”. ليقابل بموجة عارمة من الغضب عنوانها “أيها الضيف غير المرحب بك في بلادنا، لا يمكنك أن تعلمنا الأخلاق وأنت ودولتك ملطخة بدماء حرب الإبادة وآهات الجوع لشعب محاصر على يد آلتكم الوحشية.”

السفينة التي منعها المتظاهرون اليونان من الرسوم إلى موانئهم.

ولكن وبعد حملات التشهير المنسقة من قبل السلطات اليونانية والأبواق الصهيونية ضد المتظاهرين الداعمين للقضية الفلسطينية ها هو الشعب اليوناني يجيب بوضوح في يوم العاشر من آب أن إرادته في رفض الصهيونية على أرضه هي إرادة متماسكة و أنها ستكون سدا منيعا يواجه هذا الحلف بين السلطات اليونانية والصهيونية. أما جزيرة سيروس، رمز هذه المعركة تحديدا، التي كانت منها أول تظاهرة شكلت الفتيل للتظاهر في وجه سفن السياح الصهاينة شارك والتي فيها العشرات وبعد اتهام السلطات اليونانية لسكانها بدورهم السلبي ضد مصالح الدولة الاقتصادية وضد استراتيجية التحالف مع الكيان الصهيوني، خرج فيها الآلاف من سكانها في مسيرة يسجل لها أنها الأكبر في تاريخها، فشكل هذا الرد رعبا للدولة اليونانية وحلفائها الصهاينة.

إن هذه المعركة التي بدأت تحمى وطيسها في بقاع الأرض اليونانية والتي بدأت بنجاحاتها في منع بعض السفن والشحنات من الذهاب عبر موانئها للكيان الصهيوني وكذلك منعت السياح الصهاينة من الهبوط على أراضيها ومنعت السياح الصهاينة من فكرة”التمتع” في بلادها هي بداية لمعركة طويلة. وإن كل انتصار صغير في أي ركن من أركان هذه الأرض هو رديف لانتصار آخر في ركن آخر من هذه المعمورة في وجه الصهيونية وحلفائها وهو انتصار فلسطيني وانتصار للحق والإنسانية التي أصبحت مجتمعة على أن هذا الكيان هو أسوأ شيء فيها.

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *