كتبت ريتا طه:

ما الذي أدى باستحقاقنا النضالي أن يصل إلى مرحلة التشكيك بأي مبادرة عملية لأي فعل مقاوم!! ربما هذا التسليم بأن الضفة قد فقدت هويتها قد ترسخ بعد تقويض “جنين”، كحالة خاصة في ذهنية الشارع الفلسطيني… والتي سرعان ما تكشف عن صغر حجمها في وعينا الجمعي الذي لم يمنحها قيمة أكبر من كونها عنوانا أو رمزا أو شعارا… تماما مثلها مثل اختراع البطيخة بدلا على العلم الفلسطيني…

جنين بشهدائها وكتيبتها وانتصارها على كل العمليات العسكرية الإسرائيلية، اختفت الآن عن حائط الشعارات الذي نعلق عليه أيقوناتنا النضالية لتذكرنا باتصالنا مع القضية حتى ونحن نمارس حياتنا الطبيعية على بعد بضعة كيلو مترات من الإبادة في غزة…

والآن بعد.أن تم سحق جنين من الداخل بفضل حصان طروادة الفلسطيني الصنع… ومسح معالم مخيمات طولكرم قبل أن تتفاقم خطورة كتيبتها على الأمن العام للشعب العقلاني الذي يعيش في سلام تام ورفاهية يحسد عليها، تحت حكم سلطته العقلانية المتزنة والتي تراعي موازين القوى، وتفهم حجمها تماما، ولكنها تتناسى حجم الشعب الذي لم يهزم من قبل تواجدها أبدا.

وها نحن “شعب الضفة”، بعيد اختفاء رماد مخيمات جنين وطولكرم من أمام أعيننا، عدنا إلى الملطمة، نجلد ذواتنا، ونقرّع أنفسنا المتخاذلة، وصمتنا عما يجري في غزة…

وقبل كل هذا لم نتوانى عن ترسيخ مفهوما شاملا، وتبنيناه كعقيدة ثابتة مفادها هو أننا شعب تخلى عن كل شي…

والأكثر خطرا هو تلك الوساوس التي صارت تبثّها الألسن، والتي زرعتها يد ما، في ظل الخوف، وباتت تميمة نكررها في كل أوقاتنا العصيبة التي لم نعد نملك غيرها أصلا. تلك الوساوس التي نهمسها لأنفسنا على غرار:

” كل الشعب بده يهاجر”…

“والله هالبلد بطلت ينفع فيها عيشة” ..

“الوضع صار مخيف”…

“الوضع الي جاي عالضفة أسوأ من وضع غزة”…

والكثير من هذا الوساوس التي يعزز وطئتها على النفس سوء الوضع الاقتصادي… أما العدوان بتفاصيله فهو لا يحمل أي جديد منذ آخر خمس سنوات بشكل خاص حيث اشتد الخناق على الضفة.

حينها كانت تلك الانتهاكات بارزة وجليّة، وكفيلة بخلق غضب عارم، والأهم هو خلق حاضنة شعبية لأي عمل مقاوم مهما كان صغر أثره، إلا أن الشعب كله كان يهتف ويهلل ويتناول تلك الأفعال النضالية من باب الاستحقاق الطبيعي لشعب يعاني من انتهاكات لا حصر لهل من قبل محتلّ غاشم…

كانت الانتهاكات كبيرة حينها، لأنها لم تكن تخضع للمقارنة بالمذبحة الحالية في غزة… أما الآن فقد أصبحت أي انتهاكات لحقوقنا تعتبر أمر “عاديّ” طالما أنها لم تصل إلى مستوى الإبادة في غزة… هكذا كانت بداية فصلنا لأنفسنا وطنيا وإنسانياعن غزة، بشكل تام ونهائي…

من هنا ازداد حجم الصدع الوطني، وصار الشرخ أوسع من أن يعيدنا شعبا واحدا، لأننا بتنا نعيش مصيرين مختلفين من الظلم… أحدهم مقتلة… والآخر تنكيل وبتر للأطراف وفقء للعيون.

والآن، جزئنا الغزّي لم يعد يرانا من وراء دخان محرقتة… وجزئنا التالي لم يعد يصدق بأنه قد بقي هناك من يمكنه مجرد التفكير بالمواجهة. بل أن أية مواجهة لن تنال منا سوا الغضب لأنها ستشكل ذرائع للمزيد من عذابنا… لأنه من الأفضل أن يتم تعذيبنا من دون ذنب نقترفه، على أن يكون عقابا على فعل مقاوم حتى لو كان بأبسط أشكاله… هذا هو إذا سقف استحقاقنا، وهذا هو آخر مدى لتطلعنا نحو الحرية والكرامة.

إن ما يجري في الضفة الآن ليس شيء مستهجنا، ولا فعلا غرائبيا يستدعي التحليل من زاوية نظرية المؤامرة بهدف منح ذرائع لعدوّ لم يعد يرانا أصلا، ولا يحتاج للالتفاف على القوانين الدولية ولا يضطر لخلق ذرائع من أجل تدميرنا وتطهير الأرض من وجودنا.

الأمر سيبدو منطقيا فقط لو نظرنا خلفنا لزمن لا يتعدّى الخمس سنوات… ولو نظرنا إلى جهتنا الجنوبية من الوطن، فسوف تستبدل عبارات التشكيك والتسخيف لمبادرات العمليات النضالية، ليحل محلها التساؤل المشروع عن سبب تأخرها كل هذا الوقت… وعن سبب كشفها بهذه السرعة والسهولة، وعن مدى توسع رقعة العفن في مجتمعنا المخترق أمنيا ووطنيا وإنسانيا… ولم يبق له همّ أكبر من مشاكله الاقتصادية المربوطة في عقب قدم محتلّه.

ألا ليتنا نستفيق جيدا لندرك حجم خساراتنا البشرية من الشهداء والمصابين بعاهات جسدية مستديمة… وندرك حجم خساراتنا للأرض… ربما حينها سوف نخجل من تهكمنا على “مواسير كفر نعمة

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *