كتب عمر النادي

في زمنٍ يعلو فيه صوت الحديد على أنين الضحايا، يخرج الوزير الصهيوني المتديّن بتسلئيل سموتريتش، متبجّحًا بسخريته من العدالة الدولية، كأنّ المحكمة مجرّد ظلٍ في مسرحٍ إلهيٍّ يؤمن أنه سيده. يتحدث بثقة من يعتقد أن الله اصطفاه، وأن الآخرين خُلقوا خدمًا لأقدام شعبه المختار، فيترجم إيمانه إلى نارٍ تحرق غزة، وحجارةٍ تُهدم فوق رؤوس الأبرياء، وعالمٍ غربيٍّ فقد بوصلته الأخلاقية أمام مرآة الدم.

وفي المقابل، تقف أمةٌ تمتد من المحيط إلى المحيط، تُصلّي وتبكي وتدعو، لكنها سجينةُ مثلثٍ مرير: فقرٌ يطحنها، واستبدادٌ يخنقها، وتدينٌ فولكلوريّ يجمّل عجزها. صارت الجماهير كروبوتات بشرية، تسير حيث يريد الحاكم، تهدأ بأمره وتغضب بإشارته، حتى تكلّست سيوفها في أغماد الصدأ، وصارت الدعواتُ بديلاً عن الكرامة، والانتظارُ عنوانًا لأملٍ مفقود.

ما قاله سموتريتش ليس مجرّد تصريحٍ سياسي، بل انعكاسٌ لإيمانٍ عميقٍ بالتفوق المقدّس. إنه يمثّل عقليةً توراتيةً ترى في “الآخر” مادةً لخدمة المشروع الإلهي المزعوم، فتُبرّر الإبادة، وتُقدّس الاحتلال، وتحوّل القتل إلى عبادة. هذه العقلية لا تؤمن بالقانون الدولي، لأنها تضع نفسها فوقه، ولا تخاف من العزلة، لأنها تعتقد أنها محاطة بالعناية الإلهية لا بالضمير الإنساني.

لكن المفارقة الكبرى أنّ الطرف الآخر ( العالم العربي و الإسلامي ) يعاني من إيمانٍ مقلوب، يُسكّن الألم ولا يحرّك الوعي. تحوّل الدين عند كثيرين إلى موسمٍ من الطقوس، لا إلى مشروعٍ للتحرر والنهضة. الحكومات رسّخت هذا الفهم لتضمن السيطرة، فخلقت شعوبًا متدينة شكلاً، خانعة مضمونًا، تقدّس الماضي وتخاف من المستقبل، وتعيش بين راحة الدعاء وخوف السيف.

ما يجري في غزة لم يفضح فقط عنف المحتل، بل عرّى زيف المنظومة الأخلاقية الغربية. تلك التي رفعت شعارات الحرية وحقوق الإنسان، ثم سكتت حين كانت الطفولة تُدفن تحت الركام. لم تنهَر القيم الغربية فجأة، بل سقطت رويدًا حين قايضت إنسانيتها بمصالحها، وحين اختارت الصمت على القتل خوفًا من خسارة تحالف أو صفقة.

إنها لحظة تاريخية تُظهر أن انهيار الضمير لا يحتاج إلى حرب عالمية، بل إلى مشهد طفلٍ يبحث عن أمه تحت الأنقاض، فلا يجدها ولا يجد من يعترف بموته.

في ظل هذا المشهد، تبقى الأمة الإسلامية حبيسة وعيٍ مُشوَّه؛ فبدلاً من أن توحّدها المأساة، تُفرّقها الشاشات، وبدلاً من أن تُنضجها التجارب، تعيدها إلى الغيبوبة. إن المأساة ليست في ضعف السلاح، بل في ضياع البوصلة.

لقد تحوّل الدين ( الذي جاء ليحرر الإنسان ) إلى أداةٍ لتخديره، وصار الحاكم يستخدمه لحراسة سلطته، لا لإصلاح مجتمعه. هكذا تنتج ثلاثية الفقر والاستبداد والفلكلور الديني مجتمعًا منقسمًا بين عابدٍ خائف، وكافرٍ ناقم، وحياديٍّ ميتٍ من الداخل.

ربما لا يحتاج التاريخ إلى شهودٍ جدد، فقد امتلأت صفحاته بصمتنا، وارتوت سطوره من دمنا. لكن ما زال في القلب متّسع لوميضٍ صغير، يشبه الحياء من الله، حين نرى الباطل يرقص على جراحنا ونحن نصفّق له بالدعاء. لقد علّمنا سموتريتش ومن قبله أن الإيمان الأعمى يصنع جلّادًا، وأن الخضوع المقدّس يصنع عبيدًا. وبين الجلاد والعبد، تظل السماء صامتة تنتظر من يفهم سننها، لا من يكتفي برفع يديه نحوها.

سنظل ندور في فلك الوهم ما لم نكسر أقفال عقولنا، ونفكّ الرسن عن رقابنا، ونعيد تعريف الإيمان لا كاستسلامٍ للقدر، بل كفعلٍ في وجهه. فالله لا يُغلب، لكن الأمم تُهزم حين تتنازل عن إنسانيتها، وتختار النوم على صرير القيود.

وحين نستيقظ حقًا، سنكتشف أن النصر لم يكن يومًا وعدًا مؤجلًا، بل كان دائمًا يسكن في أول خطوة نخطوها نحو الحرية.

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *