بقلم لين عبدالحميد

مما قاله رئيس حركة المقاومة الإسلاميّة حماس  الشهيد يحيى السنوار ، أحد أكبر المخططين للسابع من أكتوبر المجيد: ” ‎هل مطلوب منا أمام العالم أن نُقتّل وأن نكون الضحية الطيبة حسنة الأخلاق التي تُقتل دون أن يرتفع لها صوت؟

 هذا غير ممكن بالمطلق”. معيدًا تشكيل دور الفلسطيني في غزّة خاصةً و كلّ الأرض المحتّلة عامةً من موقع الضحيّة الناعمة إلى موقع الجلّاد المقاوم، بما في ذلك من الانتقال بالفلسطينين من دور الضحيّة التي تُقتلْ على مراحل بسياسة القتل البطيء الفردي في سبيل “الهدوء الاستراتيجي” إلى الخلاص بالموت الجماعيّ في سبيل التحرير. 

وعليه لم يكن السابع من أكتوبر حدثًا خارج عن حدود التاريخ و الجغرافيا بل جزءًا منهما، حيث كانت غزّة -المدينة التي فرض الاحتلال الإسرائيليّ حصارً كاملًا برًا و بحرًا و جو عليها، بعد سيطرة حماس بشكلٍ كامل على القطاع عام ٢٠٠٧- تعاني من انتزاعٍ ممنهجّ لكافة مقومات الحياة الطبيعية حتى الإنسانيّة منها؛ كالسفر للعلاج أو الدراسة أو الصيّد في بحرها، وصولًا للإطباق الكامل على أكثر من مليونيّ إنسان من خلال التحكّم بإغلاق المعابر، مما جعلها أكبر سجنٍ في العالم دون أن يتم تعريفه دوليًا بأنّه سجنٌ حتى!. 

خلال هذه السنوات؛ شهد القطاع محاولاتٍ عدّة لكسر هذا الحصار، منها محاولات شعبيّة سلميّة عفويّة من الشعب نفسه من خلال مسيرات العودة الكبرى عام ٢٠١٨ تطالب بكسر الحصار و تنادي بحقّ العودة للاجئين الفلسطينين، تم مواجهتها بالدّم و السيّف ليرتقي في سبيلها مئات الشهداء و آلاف الجرحى، لم ينظر لهم العالم بمنظماته و مؤسساته و قوانينه الدوليّة، وفي هذا السيّاق نستطيع أن نفهم أبعاد المشهد الذي ظهر فيه طفل فلسطيني صغير يخاطب السنوار بين حشودٍ غفيرة للغزيين قائلًا: “يا عمّي خشوا مشان الله خشّوا” -يقصِد الدخول للأراضي المحتلة-،  ليردّ السنوار عليه قائلًا: “والله غير نخش”؛ و هذا ما حدث فعليًا بعدها بسنوات في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. 

وفي ذات السيّاق؛ كانت معاناة الفلسطينيين تتفاقم يومًا بعد يوم لتمدد حتى خارج حدود القطاع المحاصر؛ حيث يُقتل الفلسطينيين فرادى عند الحواجز التي سرعان ما تحولتْ إلى مقاصل يقتل الفلسطيني عندها بتهمة أو حتى دون تهمة – كالشهيد أحمد الكحلة- الذي قتلته قوات الاحتلال الإسرائيلي عند حاجز عسكري قرب بلدة سلواد في يناير من عام ٢٠٢٣ ذاته، من خلال إطلاق رصاص حيّ على رقبته من مسافة صفر أمام طفله ليس لسبب إلا لمشادةٍ كلامية بينه وبين أحد الجنود الذي وجد في الرصاص وسيلةً لإنهائه لارتقى شهيدًا؛ ومنها إلى الاقتحامات المتتالية للمسجد الأقصى، و إلى الاعتداء على الحرائر في الخليل و المرابطات في القدس؛ وهنا أيضًا يبرز مشهدٌ لأحد المجاهدين في يوم العبور المقدّس وهو يدوس على رأس أحد جنود الاحتلال وهو يصرخ قائلًا: “بدوسوا على النسوان في القدس؟ اطلّع شو بدنا نطّلع احنا.. جماجمهم”. 

كان السابع من أكتوبر هو الذروّة التي انفجّر فيها الغضب الفلسطيني؛ كما وصفه الشهيد القائد العام لكتائب القسّام محمد الضيف صباح ذلك اليوم المبارك؛ “فقد قررنا أن نضع حدًا لكل ذلك بعون الله؛ ليفهم العدو أنّه قد انتهى اليوم الذي يعربد فيه دون محاسب.. يا جماهير شعبنا و أمتنا يا أحرار العالم: اليوم يتفجّر غضب الأقصى، غضب شعبنا، غضب أحرار العالم”، وكأنّه يجسّد قول أخيه و رفيقه في الكفاح يحيى السنوار؛ انتهى وقتُ الضحيّة الطيبة!. 

كانتْ شمسُ ذلك اليوم بزوغًا لفجرٍ جديد في تاريخ استرداد الحقّ الفلسطينيّ؛ ذلك الفجر الذي شهد انتصار الدّم على السيّف و قيامُ الضحيّة على جلادها و انتفاضة التنين على صيّاده؛ ليس فعلًا بحدّ ذاته بل رد فعلٍ طال انتظاره بعد سنين من القهر و الظلم و الموت البطيء وعل مراحل، فجرٌ أعادتْ فيها المقاومة في غزّة تشكيل الأدوار فقاتلتْ بجسدها و لحمها وأظافر أبنائها في سبيل أن تزيح هذا الغبار عن وهم الجيش الذي لا يُقهر، و أسطورة العدو الذي لا يُهزم، فأثخنتْ بجنوده، واقتحمتْ معسكراته، و حولتْ مستوطنات بناها على أرضٍ سرقها من سنين إلى حلمٍ يتحقق و يتجسّد بالعودة؛ ولو لثلاثة أيامٍ فقط!. 

و رغمًا عن أنفِ العالم؛ ستظل هذه اللحظات و هذا النصر يحفر عميقًا في ذاكرة التاريخ ليكتب أن شعبًا فلسطينيًا نهضَ من الرماد بعد موته، مثخنًا بالجراح و الطعنات، ومكلومًا بالقهر على أكثر من سبعة وستين ألف شهيد، ومخذولًا بأمّتهِ و أحراره، لكنّه قاوم و يقاوم و سيقاوم ليدرّك ثأر كل من قتلتهم “إسرائيل”. ليكتب إلى أن ينتصر أو تفنى آخر قطرة دمٍ من آخر جسدٍ فلسطينيّ .. سبعة من أكتوبرٍ جديد.

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *