لم تكن قمة شرم الشيخ حدثًا دبلوماسيًا عابرًا كما حاولت وسائل الإعلام ترويجها، بل كانت تتويجًا لمسار طويل من التواطؤ السياسي والإنساني، بدأ مع العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة، وامتدّ ليُلبس الجريمة ثوب “الشرعية الدولية” و”السلام”.

ففي الوقت الذي كانت فيه رائحة الدم تملأ شوارع غزة، وكان صوت الأطفال تحت الركام أعلى من كل خطابات العالم، كانت القاعات المكيّفة في شرم الشيخ تجهّز بيانًا خاليًا من الإدانة، خاليًا من الموقف، مليئًا بالرياء.

أمريكا والكيان الصهيوني رسموا معالم ما يسمّى بـ”الشرق الأوسط الجديد” على جثث الأبرياء. لم يكن الهدف وقف العدوان، بل إعادة ترتيب المنطقة بما يخدم استمرار الاحتلال وهيمنة القوة، وتحويل مأساة غزة إلى أداة سياسية.

واشنطن أرادت أن تظهر بمظهر “الوسيط العادل”، بعد أن أمدّت آلة القتل الإسرائيلية بكل ما تحتاجه من سلاح ودعم دبلوماسي. وها هو ترامب، من جديد، يخرج ليُعلن انتصاره الوهمي، ويقدّم نفسه راعيًا للسلام بعد أن كان الراعي الأول للحرب.

سلام من طرف واحد

أي سلام هذا الذي يبدأ من فوق الدبابات وينتهي على طاولة الإعمار؟
أي “اتفاق” هذا الذي يكرّم القاتل ويمنح نتنياهو لقب “بطل السلام”؟
ترامب لم يذكر الاحتلال، لم يذكر الاستيطان، لم يأتِ على ذكر الإبادة الجماعية التي وثّقتها عدسات العالم.

بل تباهى بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، واعتبر أن توحيد المدينة تحت السيادة الصهيونية إنجاز تاريخي، وطالب بمنع محاكمة نتنياهو أمام القضاء الإسرائيلي والدولي.

أما السيسي، مضيف القمة، فاختار الصمت المطبق. لم يذكر دماء الأطفال، ولا الجوع، ولا الحصار. اكتفى بدور المنسق بين الجلاد والضحية، وكأن مصر التي قادت العالم العربي يومًا أصبحت الآن شاهدًا على جريمةٍ لا تريد أن تراها.

عشرون ألف طفل لن يعودوا

مهما حاولت أمريكا وإسرائيل تلميع الصورة، لن يُعيد أحد عشرات الآلاف من الشهداء الذين قضوا تحت القصف، ولن يعيد أحد عشرين ألف طفل قتلهم جيش الاحتلال الإسرائيلي بدمٍ بارد. لن يعيد أحد هند رجب، الطفلة التي اتصلت تستغيث قائلة: “خذوني من هنا”، ثم انقطع صوتها للأبد.
ولن يعيد أحد الدكتور عدنان البرش، الجراح الذي ظلّ يضمد جراح المصابين في مستشفيات غزة حتى اختطفه الاحتلال وقتله في سجونه.

ولن يعيد أحد الأمهات اللواتي دفنّ أبناءهن بأيديهن، ولا العائلات التي أُبيدت عن بكرة أبيها في حيّ الزيتون أو رفح أو جباليا. هؤلاء لم يذكرهم ترامب، ولم يذكرهم السيسي، ولم يذكرهم أحد من الحاضرين في تلك القاعة المذهّبة.

كأنهم لم يُولدوا يومًا، كأنّ صرخاتهم ليست جزءًا من ذاكرة الإنسانية.
لقد أرادوا أن يطووا الصفحة، وأن تبدأ مرحلة جديدة عنوانها “الإعمار مقابل الصمت”، و”السلام مقابل النسيان”.

لكننا نقولها بوضوح: لن ننسى. لن ننسى هند، ولا البرش، ولا آلاف الشهداء الذين صاروا أرقامًا في نشرات الأخبار، بينما هم وجعٌ في قلب كل فلسطيني، وعارٌ على جبين من صمت.

قمة بلا ضمير

القمة التي اجتمع فيها زعماء المنطقة لم تخرج بأي قرار يُدين العدوان أو يُطالب بمحاسبة الجناة. لم تذكر محكمة العدل الدولية، ولا المحكمة الجنائية الدولية، ولا حتى أوصت برفع الحصار فورًا عن غزة.
كل ما دار كان حول “آليات إعادة الإعمار” و”استقرار المنطقة”، أي كيفيّة إدارة ما تبقّى من الأنقاض سياسيًا واقتصاديًا بما يضمن استمرار السيطرة. تسابقوا جميعًا إلى شرم الشيخ لتقاسم كعكة الإعمار، بينما لم تستطع أي من هذه الدول إدخال رغيف خبزٍ واحد إلى غزة.

كان المشهد فاضحًا:
الجلاد يقدَّم بصفته “صانع سلام”، والضحايا يُقدَّمون كـ”عقبة أمام التسوية”. وهكذا يُعاد إنتاج الأكاذيب القديمة — أن الفلسطيني هو سبب العنف، وأن الاحتلال يدافع عن نفسه، وأن الصمت هو “حكمة سياسية”.

الشرق الأوسط الجديد… على دماء الفلسطينيين

ما جرى في شرم الشيخ ليس سوى فصلٍ من فصول مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي صيغت بنوده في غرفٍ مغلقة منذ سنوات.
مشروعٌ يقوم على تفكيك القضية الفلسطينية، وتحويلها من قضية تحرّر واحتلال إلى مسألة إنسانية قابلة للتفاوض.

مشروعٌ يجعل من إسرائيل مركزًا للقوة الاقتصادية والسياسية في المنطقة، ومن الأنظمة العربية حراسًا للحدود الجديدة. ولذلك فإن كل “قمة سلام” لا تذكر الاحتلال ولا تتحدث عن حق العودة ولا تعترف بقدسٍ شرقية عاصمة لفلسطين، هي قمة تآمر لا قمة سلام.

الضمير العالمي الغائب

المجتمع الدولي بدوره أثبت أنه بلا ذاكرة. قرارات الأمم المتحدة تُنتهك علنًا، وتقارير المنظمات الحقوقية تُدفن في الأدراج. كل شيء يُبرَّر حين تكون الضحية فلسطينية. فالإعلام الغربي يتحدث عن “صراع”، لا عن احتلال، وعن “ضحايا الجانبين”، لا عن جيشٍ يقتل ويقصف ويجوع شعبًا بأكمله. لكن مهما كانت قوة الرواية الإسرائيلية المدعومة بالمال والسياسة، فإن الحقيقة تبقى أقوى: غزة لم تُهزم، لأن روحها لم تمت.

ختامًا

ما بين صمت السيسي وتباهي ترامب، ودموع أمهات غزة، تتلخّص مأساة العالم اليوم. عالمٌ فقد ضميره، ونظامٌ دوليّ يقيس العدالة بميزان المصالح، لا بميزان الدم الإنساني.

لكننا نقولها بصوتٍ عالٍ:
لن تُغسل دماء الأطفال بخطابات المؤتمرات.
لن يُبنى السلام على جماجم الأبرياء.
ولن تُطوى صفحة فلسطين مهما اجتمعوا ووقّعوا وابتسموا أمام الكاميرات.

عمر فارس

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *