شهدت هولندا في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2025 انتخابات عامة جرت وسط أجواء سياسية مشحونة بقضايا الهجرة واللجوء وغلاء المعيشة وأمن الحدود، إلى جانب الغضب الشعبي من الموقف الأوروبي المتواطئ في العدوان الإسرائيلي على غزة. وأظهرت النتائج الأولية تحولاً نوعياً في المزاج العام الهولندي نحو الوسط واليسار، بعد سنوات من صعود اليمين المتطرف وخطاب الكراهية. فقد حقق حزب الديمقراطيين (D66) مكاسب كبيرة جعلته من أبرز القوى داخل البرلمان، بينما تراجع حزب الحرية (PVV) اليميني المتطرف بقيادة خيرت فيلدرز بنحو 11 مقعداً مقارنة بالانتخابات السابقة.
هذا التحول لم يكن مجرد تبدّل في الأرقام، بل أنه قد يشير إلى انعطافة ثقافية وسياسية تعيد رسم خريطة القوى داخل لاهاي، وتفتح نقاشاً واسعاً حول قضايا الهوية، والاندماج، والعلاقات الخارجية — وعلى رأسها الموقف من العدوان على غزة، الذي كشف تناقضات الاتحاد الأوروبي بين شعاراته عن حقوق الإنسان وسكوته عن جرائم الحرب.
ملامح التحوّل: صعود الوسط واليسار
ثلاثة أحزاب مثّلت جوهر هذا التحوّل: الديمقراطيون 66 (D66)وهو حزب ليبرالي وسطي اجتماعي، نال نحو 26–27 مقعداً من أصل 150 يمثل الطبقة الوسطى المتعلمة وسكان المدن، ويركز على التعليم والابتكار والحقوق الفردية. ويدعو إلى سياسة أوروبية موحدة للجوء تراعي الكرامة الإنسانية وتوازن بين التنظيم والإنسانية.
– فلسطين: يتبنى مواقف ناقدة للاحتلال الإسرائيلي، ويدعو إلى وقف تصدير السلاح واحترام القانون الدولي.
الحزي الثاني وهو حزب اليسار الأخضر (GroenLinks-PvdA): حزب بيئي تقدّمي يدافع عن العدالة الاجتماعية والمساواة وحقوق المهاجرين. ومن أكثر الأحزاب جرأة في انتقاد الكيان الصهيوني، ودعا مراراً إلى فرض عقوبات أوروبية ووقف التعاون العسكري، وشارك نوابه في المظاهرات المؤيدة لغزة.
والحزب الثالث هو حزب “تفكير” (DENK) الذي حافظ على حضوره في المدن الكبرى كممثل للجاليات المهاجرة. ويُذكر أن قد أسسه سياسيون من أصول تركية ومغربية، ويركز على مكافحة العنصرية وتعزيز التعدد الثقافي.
– فلسطين: من أكثر الأصوات التزامًا بالدفاع عن الحقوق الفلسطينية، وطالب بطرد السفير الإسرائيلي ووقف العدوان على غزة.
أصوات المهاجرين: إعادة التوازن
لعبت أصوات المهاجرين واللاجئين المتجنسين دوراً حاسماً في هذا التحول السياسي، إذ جسدت إرادة جديدة تطالب بالكرامة والمساواة ورفض العنصرية. وقد تحركت هذه الكتلة ضمن أربعة أبعاد رئيسية:
1. الهوية السياسية والاجتماعية: الأجيال الثانية والثالثة من المهاجرين تبنّت قضايا العدالة والتعليم والمناخ، التي تعبّر عنها أحزاب الوسط واليسار أكثر من اليمين المنغلق.
2. رد فعل على خطاب الكراهية: التصعيد العنصري الذي قاده فيلدرز ضد المسلمين والمهاجرين أثار وعيًا جماعيًا مضاداً، جعل التصويت أداة مقاومة سياسية.
3. الاعتبارات المعيشية: ارتباط المهاجرين بمنظومات الدعم الاجتماعي والتعليم والرعاية جعلهم يرون في اليسار ضمانًا للاستقرار والعدالة.
4. تأثير الحرب على غزة: مشاهد الدمار في غزة أعادت إحياء الحس الإنساني والسياسي للجاليات العربية والمسلمة، ما ترجم دعمًا واضحًا للأحزاب التي تبنّت مواقف أخلاقية تجاه فلسطين.
تراجع اليمين الشعبوي: انكسار موجة الكراهية
فقد حزب PVV 11 مقعداً على الأقل نتيجة إرهاق المجتمع من خطاب الكراهية والتخويف، وتراجع في المدن المتعددة الثقافات. توجهت شرائح وسطية إلى D66 باعتباره خياراً عقلانياً أكثر واقعية من شعارات اليمين الشعبوي. هذا التراجع مثّل انكساراً رمزياً لموجة التطرف القومي في أوروبا، التي فشلت في تقديم حلول حقيقية للأزمات الاقتصادية والاجتماعية، واكتفت بتصديرها إلى الخارج بمنطق استعماري وعنصري يحمّل المهاجرين والفقراء والمجتمعات الأخرى مسؤولية الفشل الداخلي.
وهنا يبرز سؤال وعي الجماهير الأوروبية: هل تدرك أن اليمين لا يعالج جذور الأزمات، بل يعيد إنتاجها عبر خطاب كراهية يُخفي عجزه السياسي؟ هل يمكن أن تتطور الديمقراطية الأوروبية في ظل نزعة تستبدل العدالة بتبرير الاستعمار، وتصدّر أزماتها نحو الجنوب العالمي؟
الاتحاد الأوروبي بين المبادئ والتواطؤ
لم يعد ممكناً تجاهل التناقض الصارخ بين شعارات الاتحاد الأوروبي حول حقوق الإنسان والديمقراطية، وبين تواطؤه في الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة. لقد كشفت الإبادة الجماعية أن أوروبا الرسمية — بهيئاتها ومفوضياتها — انحازت سياسياً وعسكرياً للكيان الصهيوني، في خرقٍ فاضح للقانون الدولي ومبادئها التأسيسية. لكن في المقابل، أظهرت الانتخابات الهولندية وموجة الاحتجاجات الأوروبية أن الشارع الأوروبي يرفض هذا التواطؤ، وأن جيلاً جديداً بدأ يربط بين نضاله الداخلي من أجل العدالة الاجتماعية وبين التضامن مع الشعوب المقهورة.
المشهد المقبل: نحو حكومة أكثر توازناً
يتجه حزب D66 لتشكيل ائتلاف مع GroenLinks-PvdA وبدعم محتمل من DENK، لتشكيل حكومة تستبعد اليمين المتطرف. من المتوقع أن تتبنى هذه الحكومة سياسات أكثر توازناً في ملف الهجرة، تجمع بين ضبط الإجراءات واحترام الكرامة الإنسانية، وتعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمعات المتعددة الثقافات.
أمّا عن التحوّل في الداخل الهولندي له انعكاسات خارجية مباشرة: الأحزاب الصاعدة (D66 وGroenLinks وDENK) تتبنى مواقف واضحة في نقد الاحتلال، وتطالب بوقف تصدير الأسلحة للكيان الصهيوني وفرض عقوبات أوروبية. تراجع اليمين المؤيد للاحتلال مثّل انفراجة سياسية قد تؤثر في الموقف الأوروبي العام. الحراك الشعبي المؤيد لغزة داخل هولندا عزز وعياً جديداً بأن العدالة في فلسطين جزء من العدالة العالمية.
انتخابات هولندا 2025 لم تكن مجرد منافسة حزبية، بل تحوّل في الوعي السياسي الأوروبي. لقد عبّر الناخب الهولندي، خصوصاً من أصول مهاجرة، عن رفضه للعنصرية وتصدير الأزمات والخطاب الاستعماري، واختار طريق الوسط واليسار القائم على العدالة والكرامة. إن صعود هذه القوى لا يعني فقط بداية مرحلة جديدة في السياسة الهولندية، بل إعادة تعريفٍ لموقع أوروبا في العالم: هل تبقى القارة شريكاً في جرائم الإبادة، أم تعود إلى مبادئها عن الحرية وحقوق الإنسان؟
موقع جمهورية فلسطين – هيئة التحرير





