بقلم: [ريتا طه]

لم تسقط مدينة الفاشر السودانية كما يروّج البعض، ولم تنهَر خلال أيام. الحقيقة أنّ مأساة الفاشر مستمرة منذ عام كامل من الحصار والتجويع، لكن ما تغيّر اليوم هو أنّ زمن الصمت الإعلامي انتهى، وحان وقت السماح بعرض صور المأساة للعالم.

خلال الشهور الماضية، كانت الفاشر — عاصمة شمال دارفور — محاصرة، محرومة من الغذاء والدواء، ومعزولة عن الإعلام. ورغم أنّ المنظمات الإنسانية كانت ترفع نداءاتها، فإن الشاشات الكبرى بقيت صامتة. فما الذي جعل العالم يلتفت فجأة إلى ما يحدث هناك؟
تزامن الاهتمام الجديد بالسودان مع تسريب مقاطع مصوّرة ومشاهد ملتقطة بالأقمار الصناعية، وثّقت جرائم ميدانية وانتهاكات ضد المدنيين. هذه الأدلة الملموسة أجبرت وسائل الإعلام على تغطية ما تجاهلته طويلاً.

لكنّ السؤال الذي يتردّد في الأوساط السودانية والعربية هو: لماذا سُمح بعرض هذه الصور الآن تحديدًا؟
هل تغيّر شيء في الواقع الميداني؟ أم في الحسابات السياسية الإقليمية التي ظلّت تُمسك بزمام الملف السودان.

لأشهرٍ طويلة، جرى خنق التغطية الإعلامية للحرب في السودان، عبر قطع الاتصالات وملاحقة الصحفيين ومنع المراسلين الدوليين من الوصول. كان المشهد معتمًا تمامًا. غير أنّ تبدّل موازين القوى في الإقليم — خاصة بعد إعادة رسم التحالفات السياسية والاقتصادية — جعل من الصعب استمرار هذا الصمت.
تقاطعت مصالح دولية وإقليمية في السودان، حيث تتحوّل ثروات الذهب إلى مورد تمويل رئيسي للفصائل المسلحة. ومع تزايد الضغط الدولي، بدأت الكاميرات تفتح أعينها على ما يجري، ليس بالضرورة بدافع إنساني، بل لأن اللعبة السياسية لم تعد تحتمل التعتيم.
وتُتهم الإمارات، في عدد من التقارير الصحفية والحقوقية، بأنها كانت المستورد الأول للذهب السوداني خلال السنوات الأخيرة، وأن هذا الارتباط التجاري أتاح تدفّق موارد مالية ضخمة خارج الأطر الرسمية. ومع تصاعد الحرب، صار هذا الملف عبئاً سياسياً وإعلامياً على أبوظبي.

فقدان بعض الغطاء السياسي العربي، وتزايد الانتقادات الغربية، جعلا الإمارات هدفًا مفتوحًا في الإعلام، بعد أن كانت بمنأى عن النقد المباشر. بذلك، تحوّلت العلاقة الاقتصادية إلى ورقة ضغط، وبدأ الإعلام يسلّط الضوء على ما كان مسكوتًا عنه طويلاً.
الصور التي بثّها مقاتلو «الدعم السريع» وهم يصوّرون ضحاياهم ليست عفوية. إنها رسالة تحدٍّ، بل استعراض قسوةٍ أمام عالمٍ صامت.
يرى مراقبون أن نشر هذه المقاطع يهدف إلى بثّ الرعب وإظهار السيطرة، لكنه أيضاً يختبر مدى استعداد العرب والعالم للتفاعل مع مأساة لا ترتكبها قوة أجنبية، بل أطراف محلية مدعومة من الخارج.
ورغم فظاعتها، فإن هذه المقاطع باتت دليلاً قانونياً يمكن استخدامه لملاحقة مرتكبي الجرائم أمام المحاكم الدولية، وتوثيق حجم المأساة التي عاشها المدنيون في دارفور وسائر الأقاليم.
التحرّك الإعلامي المفاجئ ليس بعيدًا عن ورقة الضغط الإنسانية التي تُستخدم غالباً حين تتعقّد المفاوضات السياسية. فكلما اشتد الصراع بين الحلفاء، أُطلقت الصور المروعة لتأديب طرف أو إحراج آخر.
لكن الضحية، كما هو معتاد، يبقى الشعب السوداني الذي يواجه التهجير والجوع والإبادة في صمتٍ دوليّ مطبق.
أمام هذه الوقائع، يواجه العالم العربي سؤالاً أخلاقيًا وسياسيًا:
هل يكتفي بالمشاهدة كما فعل في أزمات سابقة، أم يتعامل مع مأساة السودان بوصفها قضية عربية أولى لا ملفاً ثانوياً؟

فالعدو هذه المرة ليس كياناً غاصباً ولا قوةً غربية، بل واقعٌ داخليّ تغذّيه المصالح والنفوذ والمال.
السكوت عنه يعني القبول بأن تُرسم خرائط «الشرق الأوسط الجديد» بالحبر نفسه الذي يُكتب به الدم السوداني.
كيف يمكن إنقاذ السودان؟
لنتفق أولاً على أن
الحل لا يبدأ بالشجب، بل بإجراءات ملموسة:
فوقف تجارة الذهب غير المشروعة وفرض رقابة دولية على منافذ التصدير.
وفتح ممرات إنسانية بإشراف الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي.
فرض عقوبات محددة على قادة الميليشيات والجهات المموّلة.
وتمكين الإعلام المستقل ودعم الصحفيين السودانيين.
فالسودان اليوم لا يحتاج بيانات تعاطف، بل شبكة حماية حقيقية تمنع انهياره الكامل.
ما يحدث في الفاشر ليس مجرد معركة على الأرض، بل معركة على الحقيقة.
فحين تُرفع الكاميرا عن المأساة بعد عام من الصمت، نكتشف أنّ الحرب لم تكن غائبة، بل نحن الذين اخترنا ألا نراها.
الآن، لم يعد ممكناً الاختباء خلف الأعذار.
إما أن ننقذ السودان… أو ننتظر دورنا في النسيان.

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *