طارق معمر– باحث وناشط فلسطيني مقيم ببروكسل.
في زمنٍ تتزاحم فيه المآسي، وتتهاوى فيه المعايير الأخلاقية للنظام الدولي، يبدو أن ما يحدث في السودان كما في غزة ليس مجرد كارثة إنسانية عابرة، بل امتحان عميق لضمير العالم ولقدرتنا على مقاومة التواطؤ مع الإبادة والصمت. فالموقف من هذه المآسي لم يعد مساحةً للتعاطف أو بياناتٍ موسمية، بل صار معيارًا للمسؤولية والوعي، واختبارًا لقيمة الإنسان في عالمٍ تتزايد فيه الإبادات ويتراجع فيه الإيمان بالحرية والكرامة.
السودان اليوم لا يحتاج إلى دموعٍ تُسكب، بل إلى مواقف تُتّخذ. لا يحتاج إلى شفقةٍ، بل إلى فعلٍ تضامني صادق. فالشعب السوداني ليس ضحية ضعفٍ ذاتي، بل ضحية انقلابٍ على إرادته الحرة، حين التفت قوى العسكر والميليشيات على الثورة التي خرج فيها الملايين طلبًا للحرية والديمقراطية بعد عقودٍ من الاستبداد. هناك، في لحظةٍ كان يمكن أن تولد فيها دولة مدنية حديثة، بدأت رحلة الدم. وما نعيشه اليوم هو الثمن الفادح لانكسار الحلم الديمقراطي، ولتواطؤ قوى إقليمية ودولية مع نظامٍ يُعيد إنتاج الاستبداد بوسائل أشدّ فتكًا.
هذا الشعب الكريم والمثقف والمعطاء، الذي كان دومًا جسرًا بين المشرق العربي وعمق إفريقيا، يعيش اليوم واحدةً من أبشع الكوارث الإنسانية في تاريخ المنطقة الحديث. مأساةٌ لا تتصدر الشاشات إلا عابرًا، لأن الإعلام المموّل من الأنظمة التي تُطارد الحريات وتدعم الاستبداد، لا يرى في السودان إلا امتدادًا لمعاركه الخاصة، ولا في دماء السودانيين إلا مادةً دعائيةً عابرة.
إن الشعور تجاه السودان لا ينبغي أن يكون شفقةً عاطفيةً عابرة، بل التزامًا أخلاقيًا وإنسانيًا صادقًا. فواجب التضامن مع هذا الشعب لا يصدر من رحم القرابة الجغرافية أو الثقافية فقط، الذي يشاركنا اللسان والتاريخ والدين والمصير والهوية والثقافة بل من صميم الإيمان المشترك بكرامة الإنسان وحقه في الحرية والحياة. فالأمم، كما الأفراد، لا تُقاس بقدرتها على الشفقة، بل بقدرتها على الفعل والمسؤولية والتضامن. والسودان اليوم ليس مجرد مأساة وطن، بل مرآة لمدى ما تبقى من إنسانيتنا الجماعية، واختبارٌ لقيمة الضمير الإنساني في زمنٍ صار فيه الصمت تواطؤًا.
وفي المقابل، تأتي غزة لتذكّرنا بأنّ المأساة ليست جغرافية، وأنّ معركة الإنسان من أجل الحرية والعدالة واحدةٌ أينما كان، مهما تغيّرت الأسماء أو اللهجات أو الأعلام. لقد علّمتنا غزة، خلال عامٍين من حرب الإبادة الوحشية، أن الكارثة لا تكشف فقط عن وحشية المحتل، بل عن هشاشتنا نحن أيضًا — عن ضعف الوعي الجمعي، وضياع البوصلة، واستسلامنا لحدودٍ ضيقةٍ جعلتنا نتفرج على آلامنا وكأنها تخص “بلدًا آخر”.
كما كشفت غزة عن انهيار المنظومة الأخلاقية العالمية، وعن عجز المؤسسات الدولية التي شرعنت القتل بالصمت أو بالتواطؤ، حتى غدا الدفاع عن الإنسان تهمة، والمطالبة بالعدالة جريمة. لقد تحوّلت المأساة الفلسطينية إلى مرآة كاشفة لزيف الخطاب الإنساني في عالمٍ يقيس القيم بميزان القوة والمصالح، لا بالحق والكرامة.
الدرس الأهم الذي ينبغي أن نستخلصه من مأساة غزة وتجربة السودان معًا، هو أن الحدود الوطنية الضيقة كما رُسمت في زمن الاستعمار في القرن الماضي باتت عاجزة عن حماية الإنسان، بل أصبحت جزءًا من منظومة الهيمنة ذاتها. وهي صنيعة الاستعمار والامبريالية، أصبحت مكبّلة لكوامن الأمة العربية .فهذه الخرائط التي وُضعت لتفصلنا عن بعضنا، لم تُنتج سوى كياناتٍ هشةٍ تتنازعها العصبيات وتُكبّل طاقات الشعوب، فتحوّلت الأمة — بكل مكوّناتها — إلى جزرٍ متفرقة لا يجمعها سوى الألم المشترك.
وفي المقابل، ينمو الكيان الإسرائيلي ويتمدد، وتزداد قوته كلما تكرّست الفرقة العربية، وكلما استقوت الدكتاتوريات التي تكمّم الأفواه، والأنظمة الشمولية التي تحوّل المواطن إلى تابعٍ خائف. فالاحتلال لا يعيش على القنابل وحدها، بل على الصمت والخوف وانقسام الضحايا.
وبالطبع، الإبادات لا تزدهر إلا في بيئةٍ تفتقر إلى الحرية والمساءلة، وفي ظلّ أنظمةٍ ترى شعوبها خصمًا لا شريكًا. ومن هنا، يصبح النضال من أجل الديمقراطية والتحرّر من الاستبداد شرطًا أساسيًا لبقاء الإنسان نفسه. لا مجرد خيارٍ سياسي. فغياب الديمقراطية لا يُنتج فقط طغاةً محليين، بل يُعيد إنتاج منظومة القهر العالمي التي تُشرعن الظلم وتمنح القتَلة حصانةً دائمة.
الأممية التي نحتاجها اليوم ليست تلك التي تكتفي بالشعارات القومية أو الدينية، بل أممية إنسانية تقدّمية، تجمع الأحرار من كل الأمم ضدّ الاستعمار والإبادة والهيمنة. أمميةٌ تدرك أن الدفاع عن غزة أو الخرطوم أو أي أرضٍ تُسحق فيها الكرامة، هو دفاع عن المعنى الإنساني نفسه. فالمظلوم في أي مكان شأن الجميع، والعدالة لا تعرف حدودًا ولا هويات ضيقة. فالأممية هنا ليست شعارًا، بل ضرورة أخلاقية واستراتيجية في آنٍ واحد ،لأنها وحدها القادرة على تحويل الغضب إلى فعل، والوجع إلى وعي، والتعاطف إلى تضامن فعّال.
ولا معنى للأممية من دون ديمقراطية حقيقية داخل أوطاننا. فالديمقراطية ليست ترفًا سياسيًا، بل هي نقيض الإبادة، لأنها وحدها تُعيد السلطة إلى الإنسان وتجعل من كرامته أساسًا للشرعية. إن غياب الديمقراطية هو ما جعل الانقلابات ممكنة، والاستبداد مبرّرًا، والقتل الجماعي أمرًا عاديًا. لا خروج من دائرة العنف والبؤس في منطقتنا إلا ببناء نظم حديثة، تُقيم المواطنة على أسس الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.
من الخرطوم إلى غزة، ثمة خيط واحد يربط المأساة: غياب الفعل الجماعي، وشرعنة القتل في المحافل الدولية، وصمت العالم حين تُباد الشعوب الفقيرة. وما لم يتحوّل هذا الوعي إلى فعلٍ سياسي وأخلاقي عالمي، فإنّ الإبادات القادمة ستكون أوسع وأعمق، في عالمٍ تتعاظم فيه قوى الشر أكثر مما يتعاظم احترام الإنسان وحقوقه، ويتراجع فيه الضمير الإنساني أمام منطق القوة والمصالح.
إنّ التزامنا الأخلاقي تجاه المظلومين لا ينبغي أن يكون انتقائيًا أو موسميًا . لا يمكن أن نذرف الدموع على غزة ونغضّ الطرف عن السودان، أو نرفع الصوت من أجل القدس ثم نصمت عن الخرطوم. فالمبادئ لا تتجزأ، والظلم واحد، وإن تعددت ساحاته وداعموه من قوى الإمبريالية والرجعية، ومن أنظمةٍ تستعبد البشر وتنهب خيراتهم ومقدّراتهم.
إنّ كلَّ صمتٍ عن ظلمٍ قريبٍ هو مشاركة غير مباشرة في إدامة المأساة الكبرى التي تعصف بالبشرية، وتضرب في عمق روابطنا الثقافية والاجتماعية والسياسية.
لقد أثبتت التجارب أن الكارثة لا توحّدنا، وأن الإعلام المموّل من قبل الأنظمة الشمولية والدكتاتوريات وقوى الاستعمار لا يصنع الوعي، وأن ما تبقى من قيمنا الإنسانية يذوب أمام زحام المصالح والسياسة واللامبالاة.
لذلك، فإن المطلوب اليوم ليس إصدار بيانٍ جديد، بل إحداث تحولٍ حقيقي في الوعي، يعيد تعريف معنى “الأخوة” و”الواجب” في زمنٍ لم يعد فيه الظلم بعيدًا عن أحد، وزاد فيه خطر الصمت والتواطؤ.
لكن الأخطر من ذلك، أن ما يُرتكب في غزة والسودان اليوم لا يمثل فقط مأساة للحاضر، بل إنذارًا قاسيًا لمستقبلٍ قد يشهد إبادات أكبر وأوسع، في عالمٍ تتعاظم فيه قوى الشر أكثر مما يتعاظم احترام الإنسان. عالمٌ يتآكل فيه الوعي الأخلاقي، حتى يغدو الإنسان نفسه مجرّد “حيوان بشري” في نظر من يملك القوة، تُسلب منه قيمته وكرامته، ويُعامل كرقمٍ في سجلات الموت.
إن بناء تضامنٍ أمميٍّ جديد لا يبدأ من المؤتمرات أو البيانات، بل من وعي الشعوب الحرة ومن قدرتها على الربط بين نضالها المحلي ونضال الإنسان في أي مكان. فالدفاع عن الحرية في الخرطوم هو دفاع عن كرامة الإنسان في غزة، وفي أي بقعةٍ تُستباح فيها الحياة.
الأممية ليست ترفًا فكريًا، بل طوق نجاةٍ للبشرية. وحين تستعيد الشعوب صوتها وإرادتها الديمقراطية، لن يكون في هذا العالم مكانٌ لجلادي السودان، ولا لقنابل غزة، ولا لأولئك الذين يرون الإنسان مجرد “حيوانٍ بشري” في معادلة القوة والمصالح. وحين ندرك أن نصرة المظلوم واجبٌ لا خيار، يمكن عندها أن تبدأ ملامح نهضةٍ حقيقية، لا تقوم على العواطف، بل على الوعي، والموقف، والفعل المشترك.





