د. صلاح زقوت

تمرّ اليوم الذكرى الخمسون للقرار 3379 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1975، والذي اعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.

جاء هذا القرار في أجواء الحرب الباردة، في ظل الثنائية القطبية بين الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو وحلفائه من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو وحلفائه من جهة أخرى، إلى جانب تصاعد حركات التحرر العالمية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وصعود الحركة القومية العربية والثورة الفلسطينية، وهزيمة الولايات المتحدة الأمريكية في فيتنام.

غير أن التطورات السياسية اللاحقة أدّت إلى التراجع عن هذا القرار التاريخي. فقد شكّل بدء الانحدار زيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس المحتلة، وما تبعها من اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني، ثم خروج الثورة الفلسطينية من بيروت عام 1982، وهزيمة الاتحاد السوفييتي وخروجه من أفغانستان، واندلاع حرب الخليج الأولى، والتحضير لـ مؤتمر مدريد، ثم الهجرة المليونية من دول الاتحاد السوفييتي السابق إلى فلسطين المحتلة، وأخيرًا انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، لتصبح الولايات المتحدة القطب الأوحد في العالم.

استغلت الولايات المتحدة الأمريكية ودولة الكيان هذه التحولات، ونجحتا في 16 كانون الأول/ديسمبر 1991 في إلغاء القرار 3379، الذي كان يعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.

وفي ظل هيمنة القطب الواحد، جاءت اتفاقية أوسلو الكارثية التي تخلّت عن نحو 78% من أراضي فلسطين التاريخية، ومزّقت وحدة الشعب الفلسطيني، وأدّت إلى انقسام سياسي ومجتمعي أفقيًا وعموديًا.

وعلى المستوى العربي، فتحت أوسلو شهية العديد من الأنظمة العربية للتخلص علنًا مما يسمّونه “عبء القضية الفلسطينية”، فتوالت اتفاقية وادي عربة ثم مبادرة بيروت (التطبيع مقابل السلام)، ليتحوّل التطبيع من علاقات سرية إلى علاقات علنية، بلغَت ذروتها في اتفاقيات أبراهام التي جذورها منغمسة بعمق في أوسلو، في ظل الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق.

نشأ في تلك المرحلة اتجاهٌ صهيونيٌّ جديد يعتبر أن انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة وزعامتها للعالم هو انتصار لدولة الكيان، وبالتالي وجب توظيف هذا الانتصار في مختلف المجالات، بما في ذلك توسيع مفهوم معاداة السامية ليشمل أي انتقاد لسياسات الكيان الصهيوني، واعتباره عداءً لليهود.

وتعزز هذا الاتجاه بعد الجرائم التي ارتكبها الكيان ضد الشعب الفلسطيني خلال الانتفاضة الثانية، وازدياد الاستيطان وتهويد القدس وبناء جدار الفصل العنصري.

وفي 16 تشرين الأول/أكتوبر 2004، وقّع الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن على قانون مراجعة معاداة السامية بهدف إعادة رسم استراتيجيات الدفاع عن سياسات الكيان العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني.

وهنا ينبغي التمييز بوضوح بين معاداة السامية ومعاداة دولة الكيان التي تجسد الفكرة الصهيونية، كما يجب الفصل بين اليهودية بصفتها دينًا وثقافةً تمتد لأكثر من 3500 عام، وبين الحركة الصهيونية التي هي حركة سياسية استعمارية لا يتجاوز عمرها قرنًا ونصفًا.

ازداد هذا التوجه استنفارًا مع وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، والاعتراف بضم الجولان المحتل، واستكمال مسار اتفاقيات أبراهام وطرح مفهوم “يهودية الدولة”، وصولًا إلى رئاسة جو بايدن وإعلانه صراحة أنه “صهيوني”، ثم عودة ترامب مجددًا إلى الرئاسة بدعم مطلق سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا لدولة الكيان، التي تُعتبر قاعدة استعمارية غربية هدفها نهب المنطقة العربية واستعمارها، بوصفها — كما قال هرتزل — “حصنًا لأوروبا ضد آسيا، وخطًا أماميًا ضد البربرية”.

في ظل هذا المشهد، جاء السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 ليعيد القضية الفلسطينية إلى صدارة الأحداث الدولية.

وشهد العالم منذ ذلك الحين حراكًا شعبيًا وتضامنًا غير مسبوق من حركات الشباب والجامعات وكل أحرار العالم، في مواجهة حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني، المدعومة من الغرب الاستعماري، وسط عجز وتواطؤ عربي مؤسف.

لقد خرجت الملايين في الشوارع نصرةً لفلسطين، باعتبارها رمزًا للعدالة والحرية، وقضيةً أخلاقية وإنسانية للأحرار والشرفاء في العالم، في ظل تحولات عالمية متسارعة نحو نظام متعدد الأقطاب.

إن الصهيونية، بما أوقعته من معاناة وشقاء وقتل وتهجير واستيطان وتهويد واعتقال وإبادة جماعية للشعب الفلسطيني، تمثل اليوم أعمق وأخطر أشكال العنصرية ومعاداة السامية الحقيقية في جوهرها وممارساتها.

وانطلاقًا من القانون الدولي الإنساني، والرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، وقرارات محكمة الجنايات الدولية التي أصدرت مذكرات توقيف بحق رئيس وزراء الكيان نتنياهو ووزير دفاعه،

فإننا ندعو كل أحرار العالم إلى الضغط على حكوماتهم من أجل إعادة الاعتبار وإصدار قرار جديد من الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *