مراسل جمهورية فلسطين – غزة

في أحد الممرات الضيقة في مستشفى العودة بالمحافظة الوسطى، تجلس أم أحمد على كتف طفلها البالغ ثماني سنوات، تتحسّس طرفه المبتور منذ غارة جوية قبل عدة أشهر لم تترك خلفها سوى الركام. تقول بصوتٍ متماسك على غير عادتها: “لم أكن أتخيل أن أرى ابني بلا قدم. لم أعد أحلم إلا بأن يستطيع الوقوف من جديد”.

في غرفة إسعاف مؤقتة، تشبه أكثر ملجأً ضيقاً منها مستشفى، تجلس لمياء الطفلة البالغة من العمر ست سنوات، وكأنها تكتشف العالم من جديد. لكن العالم هذه المرة بلا ساق. يغطي الضماد مكان البتر، لكن لا شيء يستطيع تغطية شعورها بأن جزءاً من جسدها خرج من حياتها إلى الأبد. كانت لمياء تستعد لالتقاط صورتها الأولى في المدرسة، لكن الصورة تَحوّلت إلى مشهدٍ جديد: جسد صغير انتُزع منه طرف كامل، وهشاشة تتعلم الوقوف وحيدة في عالم لم يعد آمناً.

هذه صورة عامة لمجتمع يختبر البتر كجزء من يومياته. قطاع غزة، وفق منظمة الصحة العالمية، يسجل أعلى معدل بتر للأطفال نسبةً إلى عدد السكان في العالم، مع أكثر من خمسة آلاف عملية بتر، كثير منها كان يمكن تجنبه لو لم تنهار منظومة الإسعاف والجراحة والتأهيل تحت ضغط الحرب المستمر ونقص الإمكانات.

حين يسقط صاروخ في ثانية على منزل يضم أسرة كاملة أو مركز إيواء نازحين أو على خيمة، يتغير مصير طفل إلى الأبد. والد الطفل معاذ يضغط على صور ابنه القديمة، محاولاً فهم ما حدث: “كان يحمل رغيف خبز معاذ عاد محمولاً بلا ساق.” الطفل الذي كان يركض وراء عربة لتوزيع مياه أصبح فجأة جزءاً من إحصائية ثقيلة، فقد طرفه ومرحلة كاملة من طفولته في لحظة واحدة.

الطفلة هند، التي كانت ترسم العصافير على دفاترها وتستمد الإلهام من أمواج بحر غزة المتلاطمة والحزينة، فقدت ذراعها، وتحاول الآن الإمساك بالقلم بيد واحدة، مستكملة حلمها في الرسم رغم الجرح العميق الذي تركه البتر. والدها يتحدث بصوت يختلط فيه الحزن والذهول، وكأن الكلمات تتألم قبل أن تُنطق: “أصعب لحظة هي حين تسألني: أين ذهبت يدي؟ هل سأكبر بدونها؟”

في غزة، لا يسأل الأطفال عن معنى وجودهم في جسد تغير إلى الأبد، عن هويتهم وطفولتهم التي تَبدّلت في لحظة واحدة، وعن الطريق الذي سيسلكونه الآن في عالم فقد جزءًا من أمانه وبساطته. والأمر لا يتوقف عند فقدان الأطراف. انهيار منظومة التأهيل جعل الكارثة أكثر عمقاً.


تقرير دولي يكشف أن ثلثي مرافق التأهيل دُمّرت أو توقفت عن العمل بسبب نقص الكهرباء والمعدات، وأن ثمانية اختصاصيين فقط يعملون على تصميم الأطراف الصناعية لخدمة أكثر من مليوني شخص. ليس هناك نظم قياس دقيقة لمتابعة نمو الأطفال وضبط الأطراف الصناعية وفق أجسادهم المتغيرة، كما توقفت برامج التدريب والتطوير.

رئيس قسم الحروق ورعاية الجروح في مستشفى العودة الدكتور جمال العصار يصف الوضع بالمرعب: “المريض هنا لا يجد مكاناً مناسباً للتأهيل. حتى في أفضل الظروف المتاحة، نضطر لإرسال الأطفال والبالغين إلى خيمة مؤقتة للحصول على جلسة سريعة، أحياناً لا تتجاوز عشر دقائق. هذه الظروف المؤقتة لا تكفي لتقويم الأطراف المبتورة أو لتعليم الأطفال كيفية المشي أو استخدام الأطراف الصناعية بشكل صحيح، ما يؤدي إلى إعاقات دائمة. التأهيل المبكر جزء لا يتجزأ من الجراحة نفسها. من دون جلسات تأهيل منتظمة ومستوى عالٍ من الدعم، يمكن أن تتحول عملية البتر إلى بداية فقدان قدرة الطفل أو المريض على الحركة الطبيعية، ويصبح كل ما فعلناه لإنقاذ حياته ناقصاً أمام الواقع المؤلم”.

ويضيف الدكتور العصار: “غياب التأهيل الكافي يترك آثاراً نفسية بالغة على الأطفال، الذين يشعرون بالعجز واليأس منذ اللحظة الأولى بعد البتر. كل يوم تأخير في التأهيل المبكر يزيد من حجم الإعاقة المستمرة، ويقلل من فرص دمج هؤلاء الأطفال مجدداً في حياتهم اليومية بشكل طبيعي، سواء في المدرسة أو في مجتمعهم.”

فيما يؤكد الدكتور محمد أبو ناموس جرّاح العظام في مستشفى العودة، أن بعض حالات البتر لم تكن حتمية، ويصف الواقع الطبي بصوتٍ مختلط بالقلق والحزن: “الجرح يحتاج إلى وقت كافٍ للمعالجة، وجهاز تثبيت خارجي مناسب، وتعقيم دقيق، وتوفير ظروف آمنة للعملية. كل هذه الأساسيات غير متوفرة الآن. المعدات الأساسية مفقودة، والإمدادات الطبية محدودة للغاية، وحتى الكهرباء غير مستقرة في المستشفيات والمراكز الطبية، ما يجعل أي تدخل طبي دقيق شبه مستحيل. النتيجة الحتمية في كثير من الحالات كانت البتر، ليس كخيار طبي، بل كنتيجة حتمية لنقص الإمكانات”.

ويضيف أبو ناموس: “ما يزيد الأمر مأساوية أن بعض الأطفال والبالغين يصلون إلى المستشفى بعد ساعات من الإصابة، أحياناً بعد أن بقوا عالقين تحت الركام، أو بعد أن تعرضوا لصدمة إضافية من شظايا الصواريخ. في هذه الظروف، حتى الجروح التي كان من الممكن علاجها دون بتر، تتحول إلى فقدان دائم للطرف. كل بتر هنا هو فقدان جزء من الطفولة والحياة اليومية، ويترك أثراً نفسياً واجتماعياً لا يقل خطورة عن البتر نفسه”.

الأرقام ثقيلة على القلب. حتى أيلول 2025، بلغ عدد الجرحى في غزة أكثر من 170 ألف جريح، ربعهم يحتاجون رعاية تأهيلية طويلة الأمد، وآلاف الأطفال يحتاجون أطرافاً صناعية تتغير سنوياً، مع ارتفاع الطلب على الأطراف ثمانية أضعاف خلال أشهر قليلة. هذه الأرقام تمثل إحصائية مخيفة عن جيل الطفولة الذي سيواجه عدد كبير من أفراده الإعاقة الجماعية إذا لم يُعاد بناء نظام صحي متكامل فوراً.

نحو 42,000 شخص في قطاع غزة يعانون من إصابات غيّرت مجرى حياتهم بسبب الصراع المستمر، ربع هذه الإصابات حدثت بين الأطفال، وفق تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة.

وزارة الصحة في قطاع غزة أكدت: “القطاع يسجل أعلى معدل لبتر الأطراف لدى الأطفال نسبةً إلى عدد السكان عالمياً، حيث واجه أكثر من 6,000 شخص عمليات بتر للأطراف خلال عدوان الاحتلال على القطاع، وفق تقرير المنظمة الصادر في أكتوبر الماضي”.

الدكتورة سعاد بكر أخصائية نفسية في مستشفى العودة، تصف وضع الأطفال مبتوري الأطراف بمرارة شديدة: “هناك طفلة لا تستطيع النوم إلا بجانب أمها، خوفاً من ‘اختفاء ما تبقى’ من جسدها أثناء النوم. وطفل آخر يصرّ على ارتداء ملابس طويلة حتى في حرارة الصيف، كي لا يراه أحد ناقصاً. هؤلاء الأطفال لا يفقدون أطرافهم فحسب، بل يفقدون جزءاً من صورتهم الذاتية وما اعتادوا عليه من إحساس بالسلام الداخلي والهوية الجسدية. هذا الصراع النفسي يُولّد لديهم شعوراً بالعجز، ويترك أثراً طويل الأمد على نموهم العاطفي والاجتماعي”.

وتضيف: “التأهيل النفسي هنا لا يقل أهمية عن الأطراف الصناعية نفسها؛ فالأطفال يحتاجون إلى دعمٍ مستمر لتقبل جسدهم الجديد، للتكيف مع حياتهم اليومية، لاستعادة الثقة بأنفسهم، ولتعليمهم طرق التعامل مع الألم والخوف والوصمة الاجتماعية. بدون هذا الدعم، تصبح جميع الجهود الطبية لتوفير الأطراف الصناعية ناقصة، لأن الطفل قد يرفض استخدامها أو لا يستطيع الاستفادة منها بشكل كامل نتيجة الصدمة النفسية المستمرة”.

وتتابع أبو بكر: “الآثار النفسية للبتر تمتد إلى عائلات الأطفال أيضاً، حيث يعيش الأهل حالة من الصدمة المستمرة والقلق المفرط، ما يزيد من الحاجة إلى برامج تأهيل شاملة تشمل الطفل والأسرة معاً. لا يمكننا علاج الجسد فقط؛ علينا أن نداوي الروح قبل كل شيء”.

في الأدب، كتب غسان كنفاني عن ساق ناديا المبتورة من أعلى الفخذ في قصة “ورقة من غزة” التي وردت في مجموعته القصصية الشهيرة “أرض البرتقال الحزين”، رمز البراءة المذبوحة في فلسطين. اليوم، لم تعد ساق ناديا رمزاً أدبياً، بل واقعاً يومياً في شوارع غزة، حيث الأطفال يتنقلون بعكازات أو كراسي متحركة أو أطراف صناعية، كأن الجغرافيا نفسها أصبحت عرجاء.

يقول الدكتور ياسر شعبان المدير الطبي لمستشفى العودة – النصيرات: “ساق ناديا كانت رمزاً فردياً… أما اليوم، فنحن نتعامل مع آلاف الرموز. الرمزية تَحوّلت إلى واقع مؤلم يعيشه الأطفال والمجتمع بأسره”.

ويضيف بصوت يختلط فيه الغضب بالحزن: “الوضع في غزة كارثي، ولا يمكننا الاعتماد على وعود أو خطط مؤقتة. نحن بحاجة ماسة إلى إعادة بناء كاملة لمنظومة التأهيل، من مراكز مجهزة بالكامل بأحدث المعدات إلى كوادر متخصصة ومدربة يمكنها تلبية احتياجات الأطفال والمصابين بشكلٍ مستدام. التأهيل هنا ضرورة إنسانية لإنقاذ حياة هؤلاء الأطفال ومنحهم فرصة للاندماج مجدداً في حياتهم اليومية، واستعادة حقوقهم الأساسية في الحركة واللعب والتعليم والحياة الكريمة”.

ويشير شعبان إلى أن غياب هذه المنظومة يؤدي إلى آثار دائمة على الجسد والنفس معاً، مؤكداً أن كل يوم تأخير يعني خسارة جزء من مستقبل الطفل، وأن العمل الفوري والمستمر هو السبيل الوحيد لإنقاذ جيل كامل من الأطفال في غزة.

وأضاف: “إن مستشفى العودة، منذ بدء الحرب، تعاملت مع آلاف الحالات العاجلة الناتجة عن قصف الاحتلال للمناطق المدنية أو المناطق التي تأوي نازحين. شملت هذه الحالات أطفالاً ونساء ورضعاً، اضطر الأطباء أحياناً إلى بتر أطراف من أقدامهم وأيديهم كانت عالقة تحت الركام، ولم تتمكن الطواقم الطبية والدفاع المدني من انتشالهم بسرعة نتيجة نقص معدات الإخلاء. كما حدثت حالات بتر نتيجة شظايا تخترق الأجساد بلا رحمة، نتيجة استخدام صواريخ فتاكة أو مُسيرات تطلق صواريخ تتفتت إلى شظايا صغيرة تخترق أجساد المدنيين المنهكين والأبرياء والمجوعين، بينهم الأطفال. ويتم اضطرار الأطباء إلى البتر في كثير من الحالات نتيجة انهيار البنية التحتية”.

ويتابع: “ندعو منظمة الصحة العالمية والمجتمع الدولي إلى التحرك الفوري، وتوفير أجهزة تثبيت حديثة، وتأمين الكهرباء والمعدات، وإرسال بعثات تدريبية عاجلة لتطوير خبرات الأخصائيين. الأطفال هنا لا يستطيعون الانتظار؛ كل يوم بدون تأهيل يزيد من الإعاقة الدائمة. ورغم الجهود الجبارة التي بذلتها مستشفى العودة وغيرها من المستشفيات لإنقاذ حياة آلاف الحالات، فإن الحصار الإسرائيلي وتدمير المنظومة الصحية بالكامل، ونقص الإمكانات داخل المستشفى، أدى إلى صعوبة معالجة الحالات العاجلة، وأجبر الأطباء، أمام هذا الواقع، للأسف على بتر الأطراف حتى لا تحدث مضاعفات”.

ويضيف: “نطالب بإنشاء قاعدة بيانات وطنية لمبتوري الأطراف، وتوفير أطراف صناعية عالية الجودة للأطفال بشكلٍ عاجل، مع توحيد جهود كل المؤسسات الصحية المحلية والدولية. يجب علينا ألا ننتظر طويلاً، فكل لحظة تأخير تعني خسارة جزء من مستقبل طفل”.

ويختم قائلاً: “الطريق طويل، لكن البدء الفوري بإنشاء نظام تأهيل متكامل هو السبيل الوحيد لإنقاذ جيل كامل من الأطفال في غزة. ما يحتاجونه هو عمل حقيقي ومستدام يضمن لهم حياة كريمة ومستقبلاً يمكنهم المشي فيه بأمل وثقة”.

مراسل الجمهورية يؤكد أن الورش البدائية لصناعة الأطراف تعمل اليوم بضوء البطاريات وتستخدم أدوات شبه بدائية في ظل منع الاحتلال دخول أي معدات طبية تخص تأهيل الأطراف، بينما يتعلم الأطفال المشي على أرض غير مستوية في مدينة تهتز تحت وابل الصواريخ والأسلحة المحرمة دولياً. ومع ذلك، غزة لا تستسلم؛ المدينة تتألم وتتعذب تحت وطأة الدمار، لكنها لا تنكسر. الأطفال والمصابون يمضون قدماً، حتى ولو بأطرافٍ صناعية، ويتعلمون أن الخطوة الناقصة قد تكون بداية الطريق، لا نهايته.

الكثير من هؤلاء الأطفال والأشخاص الذين بُترت أطرافهم، ورغم حاجتهم الماسة إلى رعاية صحية وخوفهم الدائم من المضاعفات، تمكنوا من التأقلم مع واقع الحياة والحرب. لم يستسلموا لليأس، بل أظهروا قدرة مذهلة على التكيف، على إعادة اختراع خطواتهم، وعلى استعادة جزء من طفولتهم وحياتهم الطبيعية، في مشهد يعكس إرادة الإنسان الفلسطيني الغزاوي التي تصمد حتى في أقسى الظروف.


غزة اليوم تقف عند مفترق تاريخي بين الألم والأمل. الأطفال الذين فقدوا أطرافهم سيحملون آثار الحرب مدى الحياة، لكنهم يمتلكون قدرة مذهلة على التكيف وإعادة اختراع خطواتهم. ما يحتاجونه هو نظام صحي عادل، وتأهيل مستدام، ومجتمع دولي يعترف بكرامتهم حتى لو فقدوا جزءاً من أجسادهم. هذه شهادة حية، من وسط الركام، على إرادة الإنسان في أقسى الظروف، وعلى مستقبل يحتاج إلى من يحميه قبل أن يتشكل.

مصدر الصورة

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *