جمهورية فلسطين بيلم – البرازيل | نوفمبر 2025
هناك، حيث تختلط أنفاس الأرض بدخان المصانع العالمية، اجتمع قادة العالم في مؤتمر المناخ COP30 لإعادة التفكير — ولو بالكلمات — في مصير كوكبٍ يتأرجح بين الاحتباس الحراري والانحباس الأخلاقي.
لكن بيلم، المدينة الواقعة على بوابة الأمازون، لم تكن مجرد مسرح بيئي، بل تحوّلت إلى منبر سياسي عالمي يتقابل فيه الجنوب والشمال، المستعمَر والمستعمِر، الحقيقة والدعاية.
من فيديل كاسترو إلى لولا دا سيلفا: ذاكرة الجنوب الحية
قبل أكثر من ثلاثة عقود، وفي قمة الأرض الأولى بريو دي جانيرو عام 1992، وقف فيديل كاسترو محذّرًا العالم بكلماتٍ ما زالت ترنّ اليوم بقوة: “النوع البشري مهدد بالانقراض بسبب تدمير البيئة الناتج عن السعي الأناني والمجنون وراء الربح.”
كان كاسترو يومها يتحدث باسم الجنوب العالمي قبل أن يُصاغ المصطلح أكاديميًا، وباسم الإنسانية قبل أن تدخل “الاستدامة” معجم السياسة.
واليوم، في بيلم 2025، بدا الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا كأنه يواصل ذلك الإرث — مع اختلاف الزمن والسياق — عندما وصف القمة بأنها “قمة الحقيقة”، داعيًا إلى وقف دعم الوقود الأحفوري وتسريع التحول الطاقي.
حذّر لولا من اقتراب نقطة اللاعودة المناخية وارتفاع درجات الحرارة إلى 2.5 درجة مئوية، لكنه في جوهر خطابه كان يعلن استمرار المعركة التي بدأها كاسترو: معركة الجنوب من أجل العدالة في وجه الجشع العالمي.
وراء هذه الأرقام تختبئ معركة أعمق:
من الذي يدفع ثمن التغير المناخي؟
الجنوب الذي لم يراكم ثرواته من الكربون، أم الشمال الذي بنى ثروته على حساب الكوكب؟
تحدث لولا بلسان الجنوب العالمي، باسم الأمم التي تتحمل نتائج الأزمة دون أن تكون سببها، مطالبًا بـتمويل عادل، وبنظام مناخي يُدار لا من نيويورك أو بروكسل، بل من بيلم وناندي وكنشاسا وكراتشي.
الغياب الذي فضح الصمت
المشهد الأبرز في القمة لم يكن في الحضور، بل في الغياب.
لم يحضر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ولا نظيره الصيني شي جين بينغ، في صورةٍ تعكس هشاشة القيادة العالمية في لحظةٍ حرجة من تاريخ الكوكب.
أما الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو فلم يتردد في تسميته كما هو:
“إنكار العلم يقود البشرية نحو الهاوية.”
وفي مواجهة ضجيج الحروب في أوكرانيا وغزة واليمن، تساءل بيترو:
“روسيا ليست العدو، العدو هو الأزمة المناخية.”
كلمات تختصر مفارقة هذا العصر: نظام عالمي يمول الموت أكثر مما يمول الحياة.
الصوت الأخلاقي للفاتيكان
في موازاة ذلك، دخلت الكنيسة على خط النقاش.
فقد جاء صوت البابا ليون الرابع عشر ليذكّر بأن الإيمان والبيئة وجهان لمعركة واحدة.
دعا إلى “احترام الخليقة الإلهية”، محذرًا من أن تدهور البيئة يهدد السلام العالمي، قائلاً إن السلام البيئي شرط للسلام الإنساني.
في زمنٍ تطغى عليه العسكرة، بدا خطابه محاولة لإعادة الأخلاق إلى صميم السياسات البيئية، وكأن الكنيسة تقول:
“البيئة ليست مسألة تقنية، بل قضية ضمير.”
الاستعمار الأخضر… تبييض الجرائم البيئية
لم تمر مشاركة الشركات الكبرى في منطقة Agrizone مرور الكرام.
ففي تقرير نشرته Peoples Dispatch، كُشف أن شركات مثل Netafim وAdama — المتهمة بالتسبب في تلوث واسع النطاق — كانت من الجهات الراعية للمؤتمر تحت شعار “الابتكار المستدام”.
ووصفت الحركات الاجتماعية ذلك بأنه “الاستعمار الأخضر”، أي غسيل بيئي يُستخدم لتلميع صورة الشركات التي تواصل استغلال موارد الجنوب تحت غطاء “الاستدامة” و”التكنولوجيا النظيفة”.
فلم تعد معركة المناخ صراعًا بين الدول فحسب، بل معركة بين الحياة والربح.
فلسطين في قلب العدالة البيئية
في بيلم أيضًا، رُفع العلم الفلسطيني داخل خيمة الحركات الشعبية، حيث أكدت منظمات فلسطينية — من بينها حركة المقاطعة BDS — أن العدالة المناخية لا يمكن أن تنفصل عن التحرر من الاستعمار والاحتلال.
في غزة، تُقصف محطات المياه والطاقة، ويُدمّر الغطاء النباتي، ويُدفن البحر بالنفايات والركام.
إنها ليست فقط إبادة بشرية، بل أيضًا إبادة بيئية، جزء من منظومة استعمارية تمارس ما تسميه الحركات “الاحتلال المناخي” عبر السيطرة على الموارد.
وطالبت هذه المنظمات بـحظر تصدير الطاقة إلى “إسرائيل”، وإنهاء اتفاقيات المياه مع شركة Mekorot، وطرد إسرائيل من المؤتمر بسبب جرائم الإبادة والأبارتهايد.
وهكذا تحولت قضية المناخ في COP30 إلى نضال ضد الاستعمار والعسكرة، لا إلى مجرد نقاش حول درجات الحرارة والغازات الدفيئة.
الذكاء الاصطناعي وتأجيل الحلول
في زاوية أخرى من المؤتمر، ناقشت صحيفة Brasil de Fato الوجه المزدوج للذكاء الاصطناعي في زمن الأزمة المناخية.
فبينما يُروَّج له كأداة لتسريع الحلول البيئية، يُستخدم أيضًا لتبرير التأجيل والتقاعس تحت شعار “الابتكار سيحل المشكلة لاحقًا”.
لكن كما كتبت الصحيفة: “لم يعد هناك وقت للانتظار.”
فالكوكب لا يحتاج إلى خوارزميات جديدة، بل إلى إرادة سياسية وشجاعة أخلاقية.
الجنوب العالمي يرفع صوته
ما خرجت به بيلم لم يكن اتفاقًا جديدًا، بل وعيًا جديدًا:
وعي بأن الأزمة المناخية ليست أزمة طبيعة فقط، بل أزمة نظام.
وأن المناخ لن يُصلح ما لم تُصلح العلاقات بين الشمال والجنوب، وبين الإنسان والطبيعة، وبين السياسة والضمير.
وفي ختام المؤتمر، قال أحد ممثلي الحركات اللاتينية:
“لا عدالة مناخية دون عدالة سياسية.
لا يمكن أن نحرر الأرض إذا لم نحرر الإنسان أولاً.”
ربما كانت بيلم بداية هذا الحوار الصعب — حوار بين الكوكب وضميره، بين العالم كما هو والعالم كما يجب أن يكون.




