مروان عبد العال

في زمن تبدو فيه السياسة الفلسطينية محاطة بالضباب، وتتشابك فيه الخطط بالأدوات، وتغدو السلطة والإدارة متشابكة إلى حد يصعب معه تمييز الفلسطيني كإنسان عن القضية كمطلب سياسي أو مساحة جغرافية، يبرز كتاب إياد البرغوثي «من فلسطين إلى الفلسطينزم: قول في الوعي والمعنى» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2025، 296 صفحة) كإسهام فكري فريد، يقدم رؤية مختلفة تمامًا. فالكتاب لا يقتصر على سرد تاريخي أو سياسي للقضية الفلسطينية، بل يحاول أن يعيد فلسطين إلى قلب الوعي والمعنى، بعيدًا عن الخرائط والحدود والاعتراف الدولي، ليصبح الفلسطيني فاعلًا وجوديًا، والمقاومة فعل حياة، والمعنى هدفًا مستمرًا يتجدد مع كل لحظة.

منذ النكبة، تم اختزال فلسطين في الأرض المحتلة، وفي الخرائط، وفي المطالب السياسية، إلى درجة جعلت القضية الفلسطينية موضوعًا يُطالب به أكثر من أن تكون ممارسة حية، يومية، للإنسان الفلسطيني. هذا الاختزال المكاني والسياسي، رغم أهميته في السرد السياسي والدبلوماسي، ألغى بعدًا أساسيًا: الإنسان الفلسطيني كفاعل وصانع للمعنى. هنا يظهر مفهوم “الفلسطينزم” الذي يقدمه البرغوثي: وعي يمتد من الأرض إلى الإنسان، ومن المكان إلى المعنى، ويحول فلسطين من مجرد وطن يُستعاد إلى رمز للتحرر الإنساني، ونقيض لكل مشروع استعماري يسعى لتفكيك القدرة الفلسطينية على المقاومة وصناعة المعنى، ويعيد الإنسان إلى موقعه الطبيعي كصانع للتاريخ والوعي.

واحدة من أهم مساهمات الكتاب هي إعادة قراءة الصهيونية ليس ككيان سياسي فحسب، بل كمشروع معرفي وفكري قائم على العنصرية والاستثمار في الأساطير الدينية لتبرير الهيمنة. فالصهيونية، في هذا التحليل، ليست مجرد قوة سياسية عابرة، بل مشروع معرفي يهدف إلى شرعنة الهيمنة، وتأسيس مفهوم التفوق على أساس ديني وأساطيري، ما يجعل مواجهتها تحديًا وجوديًا للفلسطينينزم.

بالمقابل، يقدم “الفلسطينزم” نموذجًا معرفيًا مضادًا “الصهيونيزم” بثوبها التطبيعي وتحالفها “الإبراهيمي” ومنطقها العنصري والاستعماري، الفلسطيني لا يقوم على الوعد الإلهي الموهوم أو الاصطفاء العرقي الكاذب، بل على الفعل الإنساني المقاوم، والقدرة على استعادة الحرية والمعنى، ليصبح الفلسطيني فاعلًا وجوديًا، وصامدًا في مواجهة محاولات طمس الهوية والمعنى، مؤسسًا لشرعية لا تحتاج إلى اعتراف خارجي، لأنها مستمدة من الحق والمقاومة نفسها.

الكتاب يتناول كذلك مسألة الشرعية الفلسطينية من منظور فلسفي وتاريخي، منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وحتى مرحلة السلطة الوطنية، موضحًا كيف تحوّلت الشرعية تدريجيًا من “نبل الهدف التحرري” إلى شرعية الاعتراف الخارجي، وما نتج عن ذلك من فجوة متنامية بين شرعية الداخل القائمة على وعي الشعب، وشرعية الخارج القائمة على الاعتراف الدولي. اتفاقيات أوسلو، كما يبرز البرغوثي، مثلت لحظة انكسار للوعي الفلسطيني: الفلسطينيون حصلوا على إطار سياسي محدود، بينما اعترف الإسرائيليون بحقهم في الوجود دون التنازل عن الأرض المحتلة، محققين بذلك “اختزال الممكن” على حساب المطلق التحرري. هذا التحوّل لم يكن مجرد فشل سياسي، بل أزمة فلسفية ومعرفية، إذ تحولت الإدارة السياسية إلى بديل عن المشروع الأخلاقي والوعي التحرري، وأصبح الفلسطيني مطالبًا بالعيش في إطار محدود، بينما يُطلب منه تبرئة الجاني من أفعاله.

يمكن القول بلا مبالغة إن أوسلو كانت “خدعة القرن”. فقد عُرضت كخطوة نحو الدولة الفلسطينية المستقلة، بينما تحولت في الواقع إلى أداة محو شرعية الشعب الفلسطيني، وتحويل نضاله من حق مشروع في تقرير المصير إلى مجرد إحسان للعدو. وهنا يكمن العمق النقدي الذي يقدمه البرغوثي: ليس تحليل السياسة والأحداث فحسب، بل نقد العملية الفكرية التي حولت الفلسطيني من فاعل وجودي قادر على صناعة المعنى، إلى متلقٍ لإطار سياسي محدد، محدود بحدود الإدارة والاعتراف، بعيدًا عن مشروعه التحرري والوجودي.

من خلال تحليل التجربة القيادية الفلسطينية، يرى البرغوثي في مسيرة ياسر عرفات جدلية بين “الممكن” و”المطلق”، حيث حاول الموازنة بين الطموح التحرري والواقع السياسي، لكن الممكن ابتلع المطلق. عرفات يمثل في هذا السياق رمزًا لصراع القيادات الفلسطينية بين القدرة على التكيف مع الواقع السياسي، وبين الحفاظ على مشروع وطني ذا بعد أخلاقي وفلسفي. أما مرحلة أبو مازن، فتمثل اكتمال التحول نحو الممكن: سياسة بلا مشروع واضح، وسلطة بلا وعي تحرري، فتصبح أزمة الشرعية الفلسطينية ليست فقط أزمة فساد أو انقسام، بل أزمة فقدان المعنى ذاته. فالشرعية المنفصلة عن الوعي المقاوم تفقد جذورها الأخلاقية مهما اتسعت مؤسساتها أو تعددت اعترافاتها، ويصبح الفلسطيني مجرد عنصر في إدارة عملية سياسية ضيقة، تُعاقب الفعل المقاوم وتُحاصر الوعي.

في هذا السياق، لا يسعى “الفلسطينزم” فقط إلى تحرير الأرض، بل إلى تحرير الإنسان والوعي والوجود، وتحويل المقاومة إلى فعل وجودي مستمر، ليس ضد الاحتلال فقط، بل ضد أي محاولة لاحتواء المعنى أو تحجيم القدرة الإنسانية. بعد معركة طوفان الأقصى، لم تعد فلسطين قضية وطنية محلية، بل رمز عالمي للمقاومة الإنسانية، حيث يصبح الفلسطيني نموذجًا للوعي الذي يعيد للعالم تعريف الحرية والمقاومة والمعنى، ويحوّل صموده إلى فلسفة وجودية تعلم الإنسان أن مقاومة الظلم تبدأ من داخله قبل أن تمتد إلى أي مساحة خارجية.
يختتم البرغوثي كتابه برؤية تجعل من فلسطين أكثر من أرض، ومن الفلسطيني أكثر من تاريخ أو وطن: فلسطين ضمير الإنسانية الحي، وفلسطينزم وعي متجلٍ في كل فعل مقاوم، في كل صمود، وفي كل لحظة يرفض فيها الإنسان أن يُحرم من معنى وجوده. الحرية هنا ليست وعدًا يُكتب على ورق، والمقاومة ليست وسيلة سياسية، بل فعل وجودي متواصل، والكرامة ليست امتيازًا، بل قانون للحياة لا يُقهر ولا يُستبدل.

الفلسطينزم ليس مجرد فكرة يمكن حفظها أو مناقشتها، بل تجربة كونية: الإنسان الفلسطيني في صموده وإبداعه وإيمانه بقدرة وعيه على إعادة صياغة المعنى، يصبح نموذجًا للعالم كله، رمزًا للتحرر ولقدرة الإنسان على استعادة ذاته، وصنع التاريخ من قلب الظلام، وتحويل الألم إلى فلسفة للحياة، وإلى إعلان متجدد للحرية في كل لحظة. هنا، كل نبض، وكل فعل، وكل كلمة تصبح مقاومة، وكل صمت يصبح إعلانًا للكرامة، وكل حافة أرض فلسطينية تصبح مختبرًا لإعادة تعريف الوجود.

في هذا الأفق، فلسطين تتجاوز حدود الوطن، لتصبح تجربة وجودية وفلسفة عالمية. فلسطينزم يعلمنا أن النصر ليس في الاعتراف أو في الحدود، بل في القدرة على استعادة المعنى وصناعة الحرية، وجعل كل فعل إنساني شهادة على أن المقاومة الحقيقية تبدأ في قلب الإنسان، وأن الإنسان حين يستعيد القدرة على صناعة المعنى يصبح وحده صانع التاريخ، وفاعلًا للحياة، حتى في أحلك الظروف. فلسطين هنا ليست قضية، بل روح؛ ليست وطنًا، بل تجربة مستمرة للوعي، وكل فلسطيني يصبح فيها حاملًا لرسالة خالدة: أن الإنسان حين يقاوم الإبادة والمحو والتطهير ، حين يصنع معنى وجوده، حين يجعل من صموده فلسفة، يصبح هو ذاته الحرية نفسها.

الفلسطينزم بهذا المعنى لا يمثل مجرد حالة نضالية أو سياسية، بل فلسفة وجودية تغرس في كل إنسان درسًا عميقًا عن معنى الحياة والحرية والكرامة. إنه وعي لا يقتصر على الفلسطيني وحده، بل يمتد إلى كل من يسعى لفهم الإنسان كمقاوم للظلم، وككائن قادر على استعادة المعنى حتى في أقسى الظروف. إنه وعي يجعل من المقاومة حقًا وجوديًا، ومن صمود الإنسان الفلسطيني رسالة للعالم، تعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والأرض، بين الحرية والوجود، وبين الوعي والمعنى.

هكذا، يقدم البرغوثي في فلسطينزم خريطة وعي جديدة، تتجاوز الانقسام بين السياسي والإداري، وبين الممكن والمطلق، لتعيد للإنسان معنى المقاومة والحرية والوجود، وتحوّل فلسطين من قضية وطنية محلية إلى فلسفة وجودية عالمية. الفلسطينزم هي النقيض للصهيونيزم ، حين يتحول الفلسطيني هنا ليس مجرد حامل لقضية، بل كائن يعلّم العالم أن المقاومة ليست مجرد فعل سياسي، بل فعل حياة وفكر ووعي مستمر، وأن كل نبضة، وكل كلمة، وكل صمت، وكل خطوة على أرض فلسطين هي إعلان للحرية، وفلسفة وجودية قابلة للتكرار في كل زمان ومكان.

الفلسطينزم، بهذا العمق، يجعل من كل صمود فلسطيني رسالة للعالم، ومن كل مقاومة فعلًا عالميًا للمعنى، ومن كل إرادة حرية فلسفة قابلة للحياة في كل قلب يرفض الانكسار. فلسطين هنا ليست مجرد مكان يُحتل، ولا هوية تُستعاد، بل تجربة وجودية متجددة، ووعي مستمر، وفعل متواصل يجعل من المقاومة والكرامة والحرية شعاعًا يضيء للإنسانية طريقها في أحلك الظروف وأشد لحظات القهر ظلمًا.

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *