أولاً: الكيان الصهيوني كأداة إمبريالية عابرة للحدود.

 ‏ ارتبطت الحركة الصهيونية منذ نشأتها في أواخر القرن التاسع عشر ارتباطًا عضويًا بالبنية الاستعمارية للرأسمالية ‏الأوروبية؛ إذ تشكّلت أيديولوجيًا وسياسيًا داخل شبكة المصالح الإمبريالية التي سعت إلى إعادة تشكيل الجغرافيا ‏السياسية في منطقة غرب آسيا (أو ما يسميها المركز الغربي الإمبريالي بمنطقة الشرق الأوسط) بما يخدم توسّعها وهيمنتها. وفي هذا السياق حمل المشروع الصهيوني منذ بداياته وظيفة ‏استيطانية–إحلالية واضحة، هدفها السيطرة على موقع جغرافي استراتيجي في قلب العالم العربي بما يضمن مصالح ‏مركز رأس المال العالمي، ويشكّل في الوقت ذاته حاجزًا أمام مسارات التحرّر الوطني والسيادة والاستقلال لشعوب المنطقة.‏

وقد منح هذا الطابع الوظيفي الحركة الصهيونية موقعًا محوريًا في منظومة الاستغلال الإمبريالي منذ وعد بلفور ‏‏(١٩١٧)، مرورًا بالرعاية البريطانية خلال مرحلة الانتداب البريطاني لفلسطين حتى تأسيس الكيان الصهيوني (١٩٤٨)، ثم انتقال مركز الحماية والدعم إلى الولايات المتحدة بعد ‏الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا.

 وقد أسهمت واشنطن في ترسيخ الكيان بوصفه قاعدة عسكرية متقدمة للمشروع الإمبريالي، أو ‏حاملة طائرات أمريكية، ضامنة له تفوقاً عسكرياً نوعياً في المنطقة. لم يكن الكيان الصهيوني فقط أداة للإمبريالية في حروبها في المنطقة، بل وأبعد من ذلك وعلى غرار دعم المركز الإمبريالي للدكتاتوريات العسكرية والأنظمة الفاشية ‏في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، شارك الكيان الصهيوني بدوره في دعم الدكتاتوريات في المنطقة بالإضافة إلى دعم المشاريع القمعية والقوى الرجعية المسلحة في أفريقيا ‏وأميركا الوسطى والجنوبية وجنوب أفريقيا العنصرية، ما عزّز نفوذه الأمني–العسكري ووضعه في قلب الشبكة ‏الإمبريالية العالمية على أصعدة مختلفة من قمع للشعوب التي تطمح للتحرر، لتصنيع الأسلحة القمعية وتطوير التكنولوجيا المرتبطة بها.

ثانياً/ الصهيونية والفاشية الأوروبية: بنية فكرية واحدة

 وفي ذات السياق فقد نشأت الصهيونية داخل البيئة القومية–العرقية الأوروبية التي آمنت بقومية الدولة والتي أنجبت الحركتين الفاشية والنازية، وبهذا تبنّى الفكر ‏الصهيوني المبكر العديد من المفاهيم الأساسية التي شكّلت جوهر الفاشيات الأوروبية: مركزية “العرق”، التفوق ‏الحضاري، أسطرة الأمة، الحلول العنيفة، وتخليص الأرض من “الآخر” وما شابه من الأفكار التي أسست للشوفينية والفاشية الغربية. 

لقد تأثّر زعماء الحركة الصهيونية بالأفكار الأنجلوسكسونية التي أنتجت في التاريخ حروب الإبادة التي قضت على الشعوب الأصيلة في أمريكا الشمالية ونيوزيلندا وأستراليا وتبنت فكرة التطهير العرقي لهذه الشعوب من أجل سلب أرضها، وهي ذات السياسة التي انتهجتها الصهيونية ضد الفلسطينيين. وهكذا، تشترك الصهيونية مع ‏الفاشية الأوروبية في جوهرها البنيوي: خلق جماعة عرقية صافية، تُعرّف نفسها عبر الإقصاء والعداء، وتستخدم ‏العنف المؤسسي لإعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا‎.

 ومن هذا المنظور، فإن التطوّر الفاشي داخل الكيان الصهيوني ليس انزياحًا عابرًا أو نتيجة ظرفية للأزمات، بل ‏امتدادًا لمسار بنيوي راسخ منذ لحظة التأسيس، يتعمّق مع الزمن نحو قومية دينية–عرقية مسلّحة، يقوم على التوسع ‏الاستيطاني ويؤسس للعنف والقتل والإبادة كأدوات ثابتة في بنيته السياسية والأمنية.‏

 ثالثاً/ الفاشية الصهيونية على مستوى المؤسسات:‏

 تُجسّد المؤسسات الإسرائيلية -العسكرية والإدارية والسياسية والأكاديمية – البنية الفاشية للكيان الصهيوني، وذلك عبر تحويل العلم والمعرفة والقانون ‏والإدارة إلى أدوات مباشرة للإبادة والسيطرة. 

فيما توظف الآلة العسكرية التكنولوجيا الحديثة والذكاء الصناعي وغيرها، في تعاملها مع الفلسطينيين،  حيث يجري تحويل الأخيرين إلى حقول تجارب للأسلحة المصنعة في المركز الإمبريالي، وتجريب أدوات الهندسة الاجتماعية في مجتمعاتهم، وذلك في إطار عملية السحق الممنهج للمجتمع الفلسطيني. وتشكل العلاقة بين الآلة العسكرية الصهيونية والتصنيع المسلح الإمبريالي علاقة عضوية حيث يعد الكيان الصهيوني مختبرًا يقوم بتطوير السلاح الإمبريالي وتجريبه تحديدًا في الأبعاد الاستخباراتية والأمنية منها.

 على المستوى القانوني، وُضعت القوانين الإسرائيلية منذ بداية تأسيس الكيان الصهيوني بطريقة إقصائية تخدم مشروع التطهير العرقي ‏الاستعماري، إذ صُممت لإحكام السيطرة على الأرض الفلسطينية والضغط على سكانها من أجل تركها من خلال نزع حمايتهم القانونية وتثبيت التفوّق العرقي للمستعمِرين. ‏ومع تطوّر البنية الفاشية للكيان، انتقلت هذه القوانين من أدوات إدارة استعمارية وأدوات لسلب الأرض الفلسطينية إلى منظومة تشريعية تُشرعن الفاشية، ‏لتبلغ ذروتها في «قانون القومية اليهودية» الذي أسّس دستوريًا لفصل عرقي كامل، ثم منظومة تشريعية تُشرعن الإبادة بقانونها الجديد «قانون الإعدام» الذي يسعى ‏إلى جعل قتل الأسرى الفلسطينيين عقوبة إلزامية نافذة، دون حق الاستئناف. وهكذا يتحوّل القانون نفسه إلى وسيلة قمع ‏وقتل، ويغدو القضاء واجهة رسمية لسياسات التصفية المنظمة.‏

 كذلك تُنتج الجامعات العقائد القتالية التي تقوم على تدمير البنى المدنية كما في «عقيدة الضاحية»، التي بلغت ذروتها في قطاع غزة خلال العامين السابقين، حيث أسفرت الإبادة الجماعية عن ‏استشهاد نحو سبعين ألف فلسطيني، وفقدان نحو عشرة آلاف، وإصابة أكثر من مئة وخمسين ألفا آخرين، فضلاً عن تدمير ‏ممنهج للمنشآت المدنية والمرافق الحيوية بالكامل، بما في ذلك المدارس والمستشفيات والبنية التحتية الأساسية.‏

 أما التواطؤ الرسمي والإعلامي مع الانتهاكات ضد الأسرى -بما في ذلك الاعتداءات الجنسية- فيكشف البعد العميق ‏للفاشية التي تنزع عن الفلسطينيين صفتهم الإنسانية، وتحوّل العنف المنفلت إلى سلوك مشروع تُبرّره الدولة والمجتمع ‏معًا، ما يرسّخ مؤسسات الكيان كجزء عضوي من منظومة إبادة استعمارية مستمرة.‏ إن هذا التواطؤ ليس على المستوى الرسمي وفقط، بل تتشارك به المؤسسات المدنية والدينية والبنى السياسية والثقافية جميعها.

رابعاً: فضح وهم “اليسار الإسرائيلي”‏

يفضح الواقع الصهيوني منذ نشأة الحركة الصهيونية فكرة إمكانية وجود “يسار صهيوني” تقدمي، إذ إن جميع القوى السياسية أو الاجتماعية ‏داخل الحركة الصهيونية محكومة بالهيكل البنيوي لدولة الاستعمار- الاحلالي، وتشارك عضوياً في منظومة الإقصاء والعنف المنظّم ‏والتفوّق العرقي. حيث تُدمج المؤسسات السياسية والعسكرية والأكاديمية والنقابية في إنتاج الفاشية الصهيونية وصيانة البنية ‏الاستعمارية، بينما تظل التيارات التي ترفع شعارات السلام أو المساواة محصورة في تحسين إدارة النظام القائم دون ‏المساس بجوهره الاستعماري. 

بالتالي تقع على عاتق اليسار العالمي مهمة فضح هذه الأساطير، ورفض التطبيع مع القوى ‏التي تمنح الكيان واجهة ديمقراطية زائفة، والعمل على بناء جبهة أممية مناهضة للصهيونية بكافة أشكالها، على خطى ‏الجبهات العالمية التي واجهت الفاشية تاريخيًا. ‏

 وبهذا فإنه ومن المهم أن نشير وبشكل نقدي للدور السوفيتي سابقا والصيني حاليا في علاقته مع الكيان الصهيوني وتشريعه لوجود هذا الكيان. فقد خالف الاتحاد السوفيتي المبادئ الماركسية–اللينينية في التعامل مع الكيان الصهيوني حين اعترف به عام 1948، ‏مانحًا الشرعية لمشروع استيطاني استعماري مرتبط عضوياً بالإمبريالية الغربية، وانخدع بالخطاب “العمالي” ‏الصهيوني الذي كان يغطي على طبيعته الفاشية. كذلك تخلّت الصين لاحقًا عن الموقف التقدمي الذي تبناه ماو تسي ‏تونغ، ونسجت علاقات اقتصادية وعسكرية واسعة مع إسرائيل تشمل التكنولوجيات المتقدمة والأمن السيبراني وتبادل ‏الخبرات العسكرية، دون أن تغيّر في شكل هذه العلاقات أو مستواها في ضوء الإبادة المفتوحة على الشعب الفلسطيني.  

وفي هذا السياق يمكن أن نشير إلى أن هذا التراجع يُظهر أن كلًّا من روسيا والصين تحوّلت إلى قوى تنطلق من مصالح جيوسياسية واقتصادية ضيقة، متخلفة ‏عن أي التزام تقدمي إنساني حقيقي تجاه القضية الفلسطينية من ناحية وهو في ذات الوقت يضع الفلسطيني في مواجهة غير متوازنة مع المشروع ‏الاستعماري–الإمبريالي.‏

خاتمة: مواجهة الفاشية الصهيونية ومسؤولية اليسار العالمي.

إن الفاشية الصهيونية ليست انحرافًا سياسيًا طارئًا، بل هي النتيجة الطبيعية لمشروع استعماري وُلد داخل بيئة فكرية ‏أوروبية قومية وعنصرية. ومع الدعم المفتوح من الإمبريالية الغربية، أصبحت إسرائيل تمثّل أخطر نموذج لدولة ‏تمتلك قوة غير محدودة، وتقف خارج المساءلة، وقادرة على إشعال صراعات واسعة قد تهدد الاستقرار العالمي ‏برمّته. ومواجهة هذا المسار ليست مسؤولية الفلسطينيين وحدهم، بل مسؤولية كل القوى الديمقراطية والتقدمية في ‏العالم، لأن مستقبل النظام الدولي نفسه قد يتحدد بناءً على قدرة الإنسانية على التصدي لهذا النموذج.‏

 وبهذا فإنه يجب على اليسار والقوى التقدمية ومنظمات المجتمع المدني اتخاذ تحرك عالمي جدّي لمواجهة المشروع الصهيوني ‏الاستعماري، من خلال إعادة صياغة النقاش حول طبيعة هذا المشروع وتاريخه الإمبريالي وينبغي بناء تحالفات دولية بين القوى التقدمية في العالم العربي وأميركا اللاتينية وأوروبا وأفريقيا لكسر التفرد ‏الإمبريالي في هذه المعركة في مواجهة الشعب الفلسطيني ودعم خيارات الشعب الفلسطيني في مقاومته للاستعمار.‏ وفي هذا السياق يجب تعزيز حملات المقاطعة للكيان الإسرائيلي وعزله كلياً وفرض حظر شامل عليه، مع تبني الرواية ‏الفلسطينية في الإعلام والبحث الأكاديمي وتوثيق جرائم الحرب والإبادة، لضمان أن يبقى العالم على وعي بمسؤولياته ‏الأخلاقية والسياسية تجاه القضية الفلسطينية.‏ كل هذا يتطلب منا جميعا أنقوم بتأسيس جبهة عالمية ضد الصهيونية لتنسيق الجهود وتوحيدها من أجل مجابهة الصهيونية في كل مكان في هذا العالم كجزء لا يتجزأ من مجابهة الفاشية والإمبريالية والوحشية الرأسمالية على هذه الأرض.

Shares:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *