جمهورية فلسطين | منتصف ديسمبر 2025
استيقظت تشيلي على وقع انعطافة سياسية حادة تعيد رسم ملامح المشهد اللاتيني بأسره. ففوز المرشح اليميني المتشدد خوسيه أنطونيو كاست في جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية بنسبة تجاوزت 58%، متقدمًا بفارق مريح على مرشحة الائتلاف اليساري الحاكم جيانيت جارا (41%)، لا يمكن قراءته كعقاب انتخابي عابر لليسار على التباطؤ الاقتصادي أو تصاعد الجريمة، بل بوصفه إعلانًا عن دخول المنطقة مرحلة جديدة من الصراع الجيوسياسي المفتوح.
بهذا الفوز، تمهَّد الطريق أمام أكثر الحكومات يمينية في تشيلي منذ أكثر من خمسة وثلاثين عامًا، في لحظة إقليمية ودولية تتسم بتكثيف الضغوط على دول الأطراف، وإعادة ترتيب خرائط النفوذ في القارة اللاتينية. إنها لحظة لا تعبّر عن حسم أيديولوجي مستقر بقدر ما تعكس إنهاكًا اجتماعيًا عميقًا جرى توظيفه بمهارة سياسية.
يمتد هذا التحول على خط صدع تاريخي لم يُغلق منذ سبعينيات القرن الماضي. فبينما مثّل مشروع الوحدة الشعبية بقيادة سلفادور أليندي (1970–1973) محاولة جذرية لبناء اشتراكية ديمقراطية ذات سيادة وطنية، جاءت البينوشيهية كنقيض وجودي لهذا المشروع، لا باعتبارها نظامًا قمعيًا فقط، بل بوصفها مختبرًا مبكرًا للنيوليبرالية العالمية، حيث جرى تفكيك الدولة الاجتماعية وإعادة تشكيل المجتمع بالقوة.
اليوم، لا تعود البينوشيهية بالدبابة والانقلاب العسكري، بل بصيغة انتخابية “ناعمة”، تستثمر آليات الديمقراطية نفسها لإعادة إنتاج نموذج يخدم مصالح الهيمنة. غير أن الجديد في مشهد 2025 لا يكمن في عودة اليمين فحسب، بل في طبيعة الهيمنة ذاتها، التي انتقلت من الإمبريالية الكلاسيكية إلى طور أكثر تطورًا يمكن تسميته بـ الهايبرإمبريالية.
الهايبرإمبريالية: هندسة المجتمعات بلا دبابات
لا يمكن قراءة ما يجري في تشيلي—ولا ما سبقها في بوليفيا—من خلال قاموس الانقلابات العسكرية التقليدية. نحن أمام نمط هيمنة أكثر تعقيدًا، لا يكتفي بالسيطرة على الدولة، بل يسعى إلى تفكيك المجتمع نفسه، وإعادة هندسة وعيه وسلوكاته عبر منظومة قسرية بلا جيوش ظاهرة.
في قلب هذه المنظومة، تقوم استراتيجية “خنق النموذج”: تفعيل الإرهاب المالي عبر العقوبات، تعطيل سلاسل التوريد، وإفقار المجال العام، بما يجعل الحياة اليومية للمواطن عبئًا لا يُحتمل. تحت ضغط هذا اليأس المعيشي، يُدفع المجتمع لانتخاب اليمين باعتباره “الخيار الواقعي” القادر على استعادة “الرضا الدولي”.
يترافق ذلك مع عسكرة القانون (Lawfare) لإقصاء القيادات الوطنية عبر القضاء، ومع السيطرة الإدراكية من خلال استثمارات إعلامية ضخمة تُنتج فزعًا أخلاقيًا دائمًا حول الجريمة والهجرة، بما يبرر قبول عودة السياسات السلطوية باعتبارها ضرورة أمنية. إنها عملية استعمار من الداخل: ديمقراطية شكلية بلا سيادة، وانتخابات تُدار ضمن سقف مرسوم سلفًا.
عقيدة مونرو 2.0: تشيلي في قلب حرب الموارد
لفهم العمق الاستراتيجي لما جرى في سانتياغو، لا بد من العودة إلى التحديثات الأخيرة في استراتيجية الأمن القومي الأميركي، التي يمكن توصيفها بدقة بأنها “عقيدة مونرو 2.0”. فقد أعادت هذه الوثائق تعريف أمريكا اللاتينية ليس كجوار جغرافي، بل كـ منطقة حظر استراتيجي، معتبرة أن منع تمدد النفوذ الصيني—اقتصاديًا وتكنولوجيًا—والروسي أولوية توازي حماية الحدود الأميركية نفسها.
الأخطر هو ما ورد صراحة حول حرب الموارد الاستراتيجية. إذ تتعامل الوثائق مع تأمين سلاسل توريد المعادن الحرجة—وفي مقدمتها الليثيوم والنحاس—بوصفه مسألة أمن قومي وجودية. وفي هذا السياق، تتحول تشيلي، الواقعة في قلب “مثلث الليثيوم”، إلى ساحة صراع مركزية، حيث يُنظر إلى أي حكومة ذات نزعة سيادية تتحكم بهذه الموارد باعتبارها خطرًا يستدعي الاحتواء أو التغيير.
يتكامل ذلك مع مفهوم “الردع المتكامل” الذي يدمج الأدوات الاقتصادية والقانونية والأمنية، ويجرّم حركات التضامن والمقاطعة، ويعتبر أي ترابط نضالي بين دول الجنوب تهديدًا مباشرًا لبنية الهيمنة الأميركية.
وحدة المختبر والساحة
في هذا الإطار الجيوسياسي، تتضح العلاقة البنيوية بين تشيلي وفلسطين. فكما استُخدمت تشيلي تاريخيًا مختبرًا لتقنيات التفكيك النيوليبرالي وإدارة المجتمع بالصدمة، تظل فلسطين المختبر الدائم لتقنيات السيطرة الاستعمارية: من الحصار الشامل إلى إدارة الحياة تحت القهر، ومن تجريم المقاومة إلى تسويق القمع بوصفه “ضرورة أمنية”.
الهايبرإمبريالية التي هندست فوز كاست وتسوّغ “قمع الضرورة” في أمريكا اللاتينية، هي ذاتها التي تمنح المشروع الصهيوني غطاءه السياسي والعسكري والقانوني. في الحالتين، يُجرَّم السعي إلى السيادة الوطنية، ويُعاد تعريف العدالة باعتبارها تهديدًا للاستقرار.
وتأتي حادثة احتجاز وقرصنة ناقلة النفط الفنزويلية المتجهة إلى كوبا مؤخرًا كترجمة عملية فورية لهذه العقيدة: رسالة تجويع وردع لكل من يحاول كسر الطوق وبناء شبكات تضامن خارج منظومة الطاعة الإمبريالية—وهي سياسة لا تختلف جوهريًا عمّا يُمارس على فلسطين منذ عقود.
صراع طويل النفس
تبدو أمريكا اللاتينية مقبلة على مرحلة من التحولات العميقة، حيث تتقاطع الأزمات الاقتصادية مع الاستقطابات السياسية، ويتداخل المحلي بالإقليمي والدولي في صراع مفتوح على مستقبل القارة وموقعها في النظام العالمي—تمامًا كما هو حال فلسطين، النموذج الأكثر فجاجة لوجه هذا النظام.
ومع اقتراب استحقاقاتي انتخابية مفصلية في السلفادور—حيث دعم ترامب علنًا المرشح اليميني في مواجهة منافس من أصول فلسطينية—إلى جانب البرازيل وكولومبيا، يُتوقّع تصعيد إضافي في محاولات دفع القارة نحو اليمين. وهي معركة لا تتعلق بتبدّل حكومات فحسب، بل بمستقبل السيادة، وحق الشعوب في اختيار مساراتها خارج شروط الهايبرإمبريالية.
في هذا الزمن، قد تكون الهزائم الانتخابية ظرفية، لكن الصراع على السيادة والعدالة طويل النفس. وتبقى فلسطين، كما تشيلي وبوليفيا وسواهما، إحدى ساحات الاختبار الدائمة لقدرة الشعوب على مقاومة إعادة إنتاج السلطوية—مهما تغيّرت أقنعتها.





