15 ديسمبر 2025 |
بقلم لويس بريهوني
«كل فكرٍ ثوريٍّ يُترجَم إلى فعل، هو بحدِّ ذاته فعلُ مقاومة».
مخيم مار إلياس، حيث تتناثر البرك ويختبئ في الظلال حتى وسط حرِّ بيروت في أوائل الصيف، المخيم الذي يبدو كمتاهةً خادعة، على الرغم من كونه أصغر مخيمات اللاجئين في المدينة. عبر الأزقّة المزيّنة بملصقات شهداء المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وبين آلاف الأعلام الفلسطينية وأعلام الفصائل، وبالقرب من روضة أطفال تديرها مؤسسة غسان كنفاني، تنتظر الناشطة الثقافية تغريد عبد العال عند مدخل أكاديمية «دار الثقافة» المتواضعة.
تشبه إحدى صور الذين استشهدوا في حربٍ مستمرة مع محتلٍّ صهيونيٍّ متقلّب، تغريدَ نفسها. فقد اغتيل عمّها نضال بالقرب من مار إلياس، مع ثلاثة رفاق آخرين، في 29 أيلول/سبتمبر 2024. وكان نضال منظِّماً رئيسياً في أنشطة المقاومة التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كما كان—وليس من قبيل الصدفة—شخصيةً ثقافيةً أسهمت في تشكيل وعيها المبكر. تقول تغريد: «كان لحضوره منذ الطفولة تأثيرٌ حاسم في صياغة رؤيتي الجمالية والفكرية».
وتنسب تغريد الفضل أيضاً إلى والدها مروان، الفنان والكاتب والقيادي السياسي المعروف، بوصفه أحد أبرز المؤثّرين في مسارها. لم يكن يكتفي بأن يقول لها «هذا ما يجب فعله»، بل شجّعها على القراءة بنهم، ومنحها حرية التفكير والاستقلال الذهني.
تقول تغريد في حديثها إلى The Palestine Chronicle: «منذ وعيي المبكر بالوقائع القاسية لمخيم نهر البارد، ترسّخت في داخلي معادلةٌ لا تنفصم: الإبداع شكلٌ من أشكال النضال، والنضال جوهرُ الأدب والحرية والفن».
وقد قدّم العم نضال «تأثيراً من نوعٍ مختلف، أكثر دقّةً وأبعد مدى». فحين بدأت تغريد، في سنواتها الشابة، تهتم بالشعر وتلقيه عليه، اكتشفت أن هذا الفعل مرتبطٌ مباشرةً بالنضال من أجل التحرير الفلسطيني. وتضيف: «حلم نضال بعالمٍ مختلف، وكرّس قلبه لهذا الحلم. علّمني أن الفن ليس ترفاً ولا زينة، بل جوهرٌ ومنظورٌ مختلف للعالم، وأن أثق بنفسي في عالمٍ يخنقه الخوف. في صداقتي المبكرة معه، شعرتُ أن شجاعته لم تكن مجرّد موقفٍ بلاغي، بل حباً عميقاً للقضية».
رعاية ثقافة التساؤل
من خلال عملها مع الأطفال في مدارس الأونروا في لبنان، حملت تغريد معها القناعات التي تشكّلت خلال طفولتها في بيئةٍ يسارية. لم تأتِ التزاماتها «عبر هويةٍ موروثة» بقدر ما جاءت ثمرةً لتراكم المعرفة، وعقليةٍ تشكّلت حول الثقافة النقدية والفكر الثوري، متشبّثةً بقيم الولاء والحرية والأخلاق الثورية.
وتوضح: «كانت تلك أيضاً بيئةً تُغذّي أبناءها على التساؤل والنقد وإعادة صياغة المعنى، بدلاً من الاكتفاء بتكراره».
وترى تغريد أن الأجواء النضالية التي عاشتها في المخيم منحتها مهاراتٍ وخصالاً مميّزة، وتقول إنّها، من خلال عملها التربوي، «أدخلت إلى المدارس فلسفةً مختلفة، تقوم على رؤيةٍ تقدمية للإنسان والتعليم».
وتعترف تغريد بأنها، وقت إجراء المقابلة، كانت لا تزال «تتعافى من صدمة» فقدان نضال، في «ذلك الاغتيال الجبان الذي حاول العدوّ من خلاله إطفاء شعلة روحٍ أعظم من الموت». وفي الوقت نفسه، تعكس إحساسها بثقل الإرث الذي تشعر بواجب نقله إلى الأجيال الشابة: «إرث القراءة والفكر، والإصرار على أن يكون كلّ شيء في الحياة أداةً للمقاومة».
وفي استحضارها لذكرى نضال، تتأمّل تغريد استعارةً تشير إلى ما يتجاوز الواقع الفلسطيني الراهن: «لم تكن أحاديثنا عن الأدب فحسب، بل عن الحياة والوجود، عن البحر والسؤال الأبدي: ماذا يكمن وراء هذا البحر؟ سؤالٌ لم يكن مجرّد فضول، بل بداية مساري النضالي».
«منهجيّة لربط الفكر بالممارسة»
تغريد، الفنانة البصرية وكاتبة ثلاث مجموعات شعرية منشورة وكتابٍ في اللوحات والرسومات، تتولّى اليوم مسؤولية المنسّق التنفيذي في دار الثقافة، وهي منظمة ثقافية تعمل داخل مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسوريا، وتهدف إلى إشراك الفلسطينيين في المنفى في أنشطة ثقافية وتعليمٍ قاعدي.
ويُسجَّل للأكاديمية تنظيمُ برنامجٍ حافلٍ خلال العام الماضي، شمل إطلاق كتب، ومحاضرات، وحوارات قدّمها مساهمون فلسطينيون ولبنانيون وأمميون.
وتضمّنت هذه الفعاليات نقاشاتٍ قادتها طليعةٌ حقيقية من المناضلين والمفكّرين، من بينهم صلاح صلاح، الذي غادر مسقط رأسه طبريا طفلاً إبّان النكبة الصهيونية، ليغدو لاحقاً إحدى الشخصيات البارزة في اليسار الفلسطيني في لبنان؛ إضافةً إلى إحياء ذكرى الكاتب والمفكّر الثوري اللبناني الراحل سماح إدريس، وجلساتٍ بحثت دور الثقافة في زمن الإبادة الجماعية في غزة.
ومع وضوح الخيوط اليسارية التي تربط بين المساهمين الفكريين في الأكاديمية، فإن الدور التوجيهي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين—التي ينتمي إليها غسان كنفاني—ليس خافياً ولا موارباً. بل تؤكّد تغريد أنّ الأكاديمية «لا تنظر إلى الجبهة الشعبية بوصفها تجربةً سياسية فحسب، بل باعتبارها منهجيةً لربط الفكر بالممارسة، أي النظرية بالتطبيق، كأساسٍ لعملية التحرير».
وتشدّد على أنّ هذا الفهم للثقافة «ليس نصاً معزولاً عن الواقع»، بل «فعلٌ تحويليٌّ ينبع من معاناة الشعب ويعود ليؤثّر فيه».
وعلى الرغم من أهمية أن تمتلك الأكاديمية هويةً ثقافية يسارية، ترى تغريد أن «ذلك لا يعني الانعزال». ففي صميم فلسفة هذا المشروع تكمن قناعةٌ بإمكانية بناء ثقافةٍ جامعة، عبر إشراك تياراتٍ فكرية متنوّعة تتقاطع في أهدافها التحررية.
وتضيف: «علاقة دار الثقافة بثقافة الجبهة الشعبية علاقةٌ تأسيسية وفكرية، تستند إلى إرث ومشروع وحلم غسان كنفاني، ومفهومه لثقافة المقاومة بوصفها جبهةً في معركة الوعي والوجود. غير أنّ هذه العلاقة لا تُقيِّد المشروع، بل تُغذّيه. ففكر الأكاديمية مستقلٌّ ومنفتح على جميع التيارات التقدمية، وهو في جوهره ردٌّ على الطائفية والتعصّب الفكري».
بذور ثورةٍ مستقبلية
بعد افتتاح فرعٍ لها في دمشق إلى جانب مركز مار إلياس، تسعى الأكاديمية إلى أداء دورٍ فاعل في إعادة تنظيم الحياة الفكرية للفلسطينيين في المنفى.
وتقول تغريد: «نؤمن بأن الثقافة، حين تُمارَس بجدّية ومسؤولية، يمكن أن تكون قوةً وطنيةً رئيسية، حتى من دون أن تتحوّل إلى أداةٍ مباشرة أو خطاب تعبئة».
لكن تعريف الثقافة ذاته يحتاج، في رأيها، إلى إعادة تعريف: «هذا الترابط هو ما شكّل مفهوم المثقّف العضوي بالمعنى الغرامشي: ذاك الذي لا يعيش في برجٍ عاجي، بل في قلب شعبه، في المخيم، ويشارك في تشكيل وعيهم، واضعاً معرفته في خدمة مشروع التحرير الوطني الشامل».
ويمتد هذا التصوّر إلى ما يتجاوز جدران مخيم مار إلياس الضيّقة، حيث تسير استعادة التراث الثقافي الفلسطيني جنباً إلى جنب مع «رعاية الأفراد المبدعين والمواهب الشابة، أينما وُجدوا». وتضيف تغريد أن بناء الوعي هو المهمة المركزية للأكاديمية، بوصفه مشروعاً ثقافياً فلسطينياً متّصلاً بالتعبئة الشعبية، وقادراً على «مواجهة النزعات الثقافية الرجعية، مثل ثقافة الهزيمة وثقافة الإبادة والمحو».
وتؤكّد تغريد أن دار الثقافة «لا تعمل من أجل مشروعٍ ثقافيٍّ ضيّق» يقوم فقط على الإبداع أو الفكر أو النشر، بل تهدف في نهاية المطاف إلى التأثير الفعلي والمساهمة في مشروع التحرير الوطني الفلسطيني.
في لبنان، دفع رموزٌ في الثقافة والسياسة حياتهم ثمناً، من غسان كنفاني إلى مهدي عامل وسيد حسن نصر الله. تستوعب تغريد دروس عمّها نضال، وتلتزم





